يوم 11 فبراير 1979 م، سقط آخر شاهنشاه علماني، وانفتح الطريق؛ ليعتلي مكانه أول شاهنشاه ديني، سقط ملك الملوك الشاه محمد رضا بهلوي 1919 – 1980 م، وقام مقامه المرجع المعظم والقائد الكبير للثورة الإسلامية العالمية، ومؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية- حسبما وصفته المادة 107 من الدستور- آية الله العظمى الإمام الخميني 1902 – 1989 م، (قدس الله سره) الذي اعترفت الأكثرية الساحقة للناس بمرجعيته وقيادته، كما ورد في نص المادة المذكورة من دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي جرى الاستفتاء عليه في الأسبوع الأول من ديسمبر 1979م، ومنح الإمام الخميني، ومن يحلون محله في قيادة الدولة صلاحيات مطلقة في كل جليل ودقيق من أمور الدولة، هو كل شيء في الدولة، رئيس الجمهورية مجرد رئيس للوزراء، يلزم أن يعتمد المرجع المعظم والقائد الكبير والمرشد الأعلى قرار تنصيبه بعد انتخابه، وللمرشد الأعلى حق عزل رئيس الجمهورية بعد إدانته بحكم من القضاء أو بقرار من البرلمان، والمرشد الأعلى هو من يعين، ويعزل رئيس السلطة القضائية، كما أن المرشد الأعلى بيده مفاتيح البرلمان، أو مجلس الشورى عبر الدور الحاسم الذي تلعبه المجالس غير المنتخبة شعبياً مثل، مجلس الخبراء ومجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس صيانة الدستور ومفاتيحها جميعاً في يد المرشد الأعلى، حالة نموذجية ينطبق عليها قول عالم السياسة المقارنة الأمريكي صمويل هنتنجتون 1927 – 2008 م، في ص 69 من الترجمة العربية لكتابه “الموجة الثالثة” إذ يقول: “إذا تحول القادة الذين تم انتخابهم بطريقة ديمقراطية إلى مجرد واجهة سياسية لجماعة، لم يتم اختيارها بصورة ديمقراطية، فإن هذا النظام ليس ديمقراطياً”.  

بعد ثورة 23 يوليو 1952م في مصر، تشكلت صيغة حكم تقوم على رئيس لديه كل السلطات، يتمتع بحق السيادة العليا، أجهزة سيادية وأمنية وبيروقراطية، ترسم السياسات، حكومة تنفيذية تتولى الإدارة، قوى سياسية تحت السيطرة تملأ الفراغ الاجتماعي. شيء قريب من ذلك جداً، حدث بعد ثورة إيران 1979م، فالمرشد الأعلى له السيادة المطلقة، والأجهزة غير المنتخبة ترسم السياسات، وتضعها، ورئيس الجمهورية والوزراء والبرلمان مجرد أجهزة إدارة عامة وتصريف أعمال وقيادة شؤون يومية، وما يسمى بتيارات إصلاحية أو راديكالية مجرد ملء ساحات اجتماعية من الخطر تركها للفراغ، لهذا فمصر وإيران فيهما انتخابات دورية منتظمة، لكن ليس فيهما ديمقراطية، فيهما ديمقراطية المرشد أو القائد في إيران وديمقراطية الضابط، أو الرئيس في مصر، وكلاهما استبداد شرقي محض تحت مسميات حديثة مستعارة.

الولي الفقيه الذي يحكم بالإنابة عن الإمام الغائب، الذي هو الثاني عشر من أئمة آل البيت بدءًا من الإمام علي بن أبي طالب، الذي هو- في فقه الشيعة- الإمام الحق بعد حضرة سيدنا النبي (ص)، الولي الفقيه يحكم بالإنابة عن الإمام الغائب، ومن ثم عن الإمام علي (رضي الله عنه)، ومن ثم عن حضرة النبي (ص)، لهذا فالمرشد الأعلى- وفق هذا الفهم- هو قائد الأمة الإسلامية، وليس دولة إيران وحدها، فالمادة 109 من الدستور التي تتحدث عن الشروط والصفات اللازم توافرها في القائد جعلتها ثلاثة: 1- الكفاءة العلمية الكافية للإفتاء في مختلف أبواب الفقه. 2- العدالة والتقوى اللازمتان لقيادة الأمة الإسلامية. 3- الرؤية السياسية الصحيحة والكفاءة الاجتماعية والإدارية… إلخ. (ما يعنينا من منطوق المادة، هو النص على “قيادة الأمة الإسلامية”. وهي صياغة دينية لمنصب الشاهنشاه- ملك الملوك- منذ ظهرت القوة الفارسية في ثوب إمبراطوري عظيم مع الدولة الكيانية أو الأخمينية عند منتصف القرن السادس قبل الميلاد، وقد عاشت أكثر من قرنين، حتى اكتسحها الإسكندر، ثم الإمبراطورية الساسانية من منتصف القرن الثالث الميلادي، حتى منتصف السابع الميلادي، عاشت قوى عظمى أربعة قرون، حتى اكتسحها زحف العرب تحت لواء الإسلام. مثل مصر، فإن إيران إما تكون إمبراطورية وإما مستعمرة، مع فارق، أن جغرافيا مصر ملمومة بين البحرين والوادي والدلتا، تحميها صحراء من الشرق والغرب، بينما جغرافيا الهضبة الإيرانية فآفاق فسيحة، تبدأ من وادي دجلة والفرات غرباً، وتصل حتى نهر السند شرقاً، لذلك عندما احتلت فارس مصر في عهد الإمبراطورية الكيانية أو الأخمينية، فإن حدودها كانت تمتد من نهر النيل غرباً، حتى نهر السند شرقاً، وقد حاولت الإمبراطورية الساسانية انتزاع مصر من بيزنطة لفترة سنوات معدودة، قبل أن يتمكن عمرو بن العاص من انتزاعها إلى الأبد.

سلطات القائد وصلاحياته، لا تكاد تترك خرم إبرة، دون أن تكون تحت بصره ورهن إشارته، وهي كما وردت في المادة 110 كالتالي: 1- وضع السياسات العامة لنظام الجمهورية الإسلامية بالتشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام. 2- الإشراف على حسن تنفيذ السياسات العامة للنظام. 3- إصدار الأمر بالاستفتاء العام. 4- القيادة العامة للقوات المسلحة. 5 – إعلان الحرب والسلام والنفير العام. 6- تعيين وعزل وقبول استقالة كل من: فقهاء مجلس صيانة الدستور، أعلى مسئول في السلطة القضائية، رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، رئيس أركان القوات المسلحة، القائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية، القيادات العامة لأفرع القوات المسلحة، قيادات الأمن الداخلي. 7- حل المنازعات وتنظيم العلاقات بين السلطات الثلاث. 8- حل مشكلات النظام التي لا يمكن حلها بالطرق العادية من خلال مجمع تشخيص مصلحة النظام. 9- المصادقة على تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من الشعب. 10- عزل رئيس الجمهورية مع ملاحظة مصالح البلاد بعد صدور حكم المحكمة العليا بتخلفه عن أداء واجباته، أو بعد أن يحكم البرلمان (مجلس الشورى) بعدم كفاءته. 11- العفو أو تخفيف العقوبات عن المحكوم عليهم في جرائم. 

هذه هي صلاحيات القائد الأعلى، وهي- في مضمونها-  أقرب ما تكون إلى صلاحيات كافة طغاة الشرق الأوسط تحت مسميات جمهورية وملكية مختلفة، أما رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب مباشرة، وأما مجلس الشورى المنتخب كذلك من الناس مباشرة، عليهما قيود ثقيلة جداً، تجعل منصب رئيس الجمهورية في إيران أقرب إلى منصب رئيس الوزراء في مصر، كما تجعل مجلس الشورى أقرب إلى هيئة استشارية، فرئيس الجمهورية فوقه القائد الأعلى، ومجلس الشورى فوقه مجلس صيانة الدستور، وهذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.