انطلقت مجدداً جلسات الحوار الوطني، والتي بدأت في ضم أعضاء جدد إلى لجانه، من بينهم من عانى من ضيقة الحبس وعتمة الزنازين، وهو الأمر الذي يجب أن يكون مؤشراً على أن تنال قضية الحبس الاحتياطي، وتعارضه مع الحرية الشخصية، وعسفه بمبادئ عديدة من المبادئ الحقوقية والدستورية، وبشكل محدد، وبعيداً عن تدوير المتهمين في قضايا جديدة بعد قرارات الإفراج عنهم، إلا أن طول مدة الحبس الاحتياطي، تحت مظنة اتهامات توحي، بأن هناك أمرا أو فعلاً، يشكل جناية قد ارتكبت، وهو في الغالب الموضوع الذي يتم اتهام من ينادون ببعض الحريات، أو يدافعون عنها، أو يوجهون النقد إلى بعض السياسات الحكومية، وهو ما يجعلهم في مصاف المعارضين للنظام السياسي. ذلك بخلاف ما يناله من الكتاب والصحفيين، وبشكل عام ما يمس حرية الرأي والنشر والتعبير.

وإن كانت كل هذه الأمور، لا تخلو من كونها عمل عام واجب؛ لتحقيق الحق في المشاركة السياسية، أو المساهمة في إدارة شؤون البلاد، أو على أقل تقدير الحق في مخاطبة السلطات العامة، وهو الأمر الذي لا يخلو مجتمع منه، ولا بد من تحققه في كافة المجتمعات، حتى لا تسير السياسات وفق أفق واحد، وحتى يكون هناك سبل للتعبير عن الآراء، ويكون في مجمل الأمر اختلاف في وجهات النظر، لا بد وأن يؤخذ بعين الاعتبار، ما يصلح منه سبيلاً لتغيير السياسات، أو لتغير أوجه نشاط الدولة بشكل عام.

   ومن الزاوية القانونية، فيعد الحبس الاحتياطي من أهم موضوعات قانون الإجراءات الجنائية خطورةً، ذلك على أساس أنه يمثل نقطة توازن بين مصلحتين شرعيتين متعارضتين، فمن ناحية أولى، ينبغي إقراره للمحافظة على أمن المجتمع وسلامته، وذلك بتدعيم سلطة الدولة، حتى يتيسر لها أداء المهام المنوطة بها لحماية المجتمع، بحيث تكون الإجراءات التي تتخذها الدولة، وتمس حرية الفرد خاضعة لتنظيم القانون، فالمصلحة العامة وترسيخ النظام العام في المجتمع، يحتم ألا تكون الحقوق والحريات الفردية مطلقة، بل تخضع لتنظيم القانون، حرصًا على سلامة المجتمع. ومن ناحية أخرى فإن الأفراد يتمتعون بالحقوق والحريات الأساسية التي يكفلها لهم الدستور والقانون، ولذلك ينبغي تدعيم هذه الحريات وعدم حرمان أي فرد من حريته. ومما لا شك فيه أن الحبس الاحتياطي يعتبر من أخطر إجراءات المحاكمة الجنائية السابقة على صدور الحكم القضائي البات، فهو يؤدي إلى إيذاء الفرد في سمعته ومصالحه وأسرته، فيعرض سمعة المتهم للتشويه، ولمعاناة مادية ومعنوية على جميع المستويات، العائلية أو المهنية أو الحياة الاجتماعية. بشكل أعم وأشمل، يعتبر الحبس الاحتياطي أحد إجراءات التحقيق صادرًا عن السلطة المختصة، يتم بمقتضاه إيداع المتهم السجن فترة زمنية محددة قابلة للتجديد، حتى ينتهي الأمر، إما بالإفراج عنه أثناء التحقيق الابتدائي وإما المحاكمة، وإما بصدور حكم في الدعوى ببراءته أو بالإدانة والبدء بتنفيذ العقوبة عليه.

وإذ أن الحبس الاحتياطي يتناقض بشكل أو بآخر مع الحريات الشخصية، ويضر بها ويضيق من ممارستها، كما وأنه من المستقر عليه منذ القدم، أن هناك إعلانًا بشريًّا ولو بشكل طبيعي وفطري نحو إعلاء قيمة الحريات وقدر الحقوق، ومن ثم فقد باتت المجتمعات متوجهة بشكل طبيعي نحو صونها وحمايتها، وذلك قبل أن تكون هناك اتفاقيات ومواثيق حقوقية تؤكد ذلك، وقد بدأ قدر الاهتمام الدولي يتزايد، بعد أن تم إقرار الحقوق، بداية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وما تبعه من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وبات على السلطات المحلية أن تسعى جاهدة إلى إدخال نصوص تلك المواثيق والاتفاقيات الحقوقية ضمن المدونات التشريعية الداخلية بأي طريقة، بما يضمن صون تلك الحقوق والحريات، وهو ما يعني أن على السلطات أن تسعى جاهدة إلى الموازنة بين دعم سلطاتها في حماية المجتمع، وضمان أمنه، ودعم وصون حريات الأفراد من جهة أخرى منعًا للاستبداد.

   إذن، فإن أهم مبررات الحبس الاحتياطي هو أن تقتضيه أمور التحقيقات، بمعنى لزوميته لحسن سير الدعوى الجنائية ولصيانة أمن المجتمع وسلامته، وعلى الرغم مما جاء بالفقرة الأخيرة من هذا النص الدستوري، بأن “وينظِّم القانون أحكام الحبس الاحتياطي ومدته”، فإن ذلك يجب أن يكون في حدود عدم التعارض مع الحرية الشخصية، بما يعني مصادرتها أو الجور عليها دونما مبرر أو حاجة تقتضيها مجريات التحقيق، فإن تعدى الأمر حدود الحرية، بات مخالفًا للقواعد الدستورية بشكل قاطع، وهو الأمر الذي استقرت عليه أحكام المحكمة الدستورية العليا، منها ما جاء فيه: “وحيث إن الأصل في الحقوق التي كفلها الدستور، أنها لا تتمايز فيما بينها، ولا ينتظمها تدرج هرمي، يجعل لبعضها علوًّا على ما سواها، وكان قضاء المحكمة الدستورية العليا قد اطَّرد على أن خضوع الدولة للقانون، محدد على ضوء مفهوم ديمقراطي، مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التي يعتبر التسليم بها في الدول الديمقراطية، مفترضًا أوليًّا لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته المتكاملة، ويندرج تحتها طائفة من الحقوق وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التي كفلها الدستور، من بينها ألا تكون العقوبة مهينة في ذاتها، أو مجاوزة في قسوتها للحدود التي توازنها بالأفعال التي أثَّمها المشرِّع، ليكون إيقاعها شاذًّا منافيًا لحكم العقل، وكان لا يجوز كذلك تقييد الحرية الشخصية إلا بعد اتباع الوسائل القانونية التي يكون تطبيقها موافقًا لأسس الشرعية الدستورية وضوابطها”.  ويذهب الدكتور أحمد فتحي سرور، إلى أن الحبس الاحتياطي إجراء بالغ المساس بالحرية الشخصية، وبمقتضى هذا الإجراء يُودع المتهم في السجن خلال فترة التحقيق كلها أو بعضها، ويتعرض لانتهاك كرامته الإنسانية التي كان يتمتع بها إبان كان طليق السراح، وهو ما يحتم التدقيق في مراعاة درجة التناسب بين آلام الحبس الاحتياطي ومصلحة المجتمع.

ومن الناحية الواقعية، فقد سبق وانعقد مؤتمر الحوار الوطني، وتداولت جلساته، والتي حوت في محاورها على موضوع الحبس الاحتياطي، وكان أغلب المراقبين ينتظرون، أن تسفر تلك الجلسات بمناقشتها، وما أسفرت عنه من ملاحظات ونتائج، عن تغييرات محتملة، أو تطوير في معالجة موضوع الحبس الاحتياطي، إلا أنه لا شيء  بدا في الأفق، ولكن مع إعادة افتتاح جلسات الحوار الوطني، ومع تدهور أوضاع الحبس الاحتياطي، وزيادة أعداد المحبوسين على خلفية قضايا متعلقة بممارسات مرتبطة بحريات الرأي والتعبير، والذين من بينهم صحفيون مقيدون أو ما عداهم، ممن هم ليسوا في سجلات نقابة الصحفيين، أو من يمارسون الصحافة الإلكترونية وغيرهم، فهل لنا  أن نتلمس من وراء هذه الجدر منفذا للضوء، بأن تأتي تغيرات واضحة في معالجة قانون الإجراءات الجنائية، بما يتضمن معالجة مغايرة لموضوع الحبس الاحتياطي، تتناسب ولو بشكل جزئي مع أية تطورات دستورية أو حقوقية.