يرى كثير من المصريين، حين يبدأ الحديث عن الإصلاح السياسي، أن الغالبية العظمى من الناس غير مهتمة بالإصلاح السياسي، إنما مهتمة أساسا بأوضاعها الاقتصادية والمعيشية، وإنه إذا حلت مشاكلها الاقتصادية أو جانب كبير منها، فأنها لن تنتقد الأوضاع القائمة، حتى لو كانت غير ديمقراطية، ولن تسعى من أجل الإصلاح السياسي.

ورغم صحة وجهة النظر هذه إلى حد كبير، وخاصة في ظل الأوضاع الحالية، إنما السؤال الذي يجب طرحه، هل يمكن إجراء إصلاح اقتصادي وتحسين أحوال معيشة المصريين وفق الحدود الدنيا التي حددها الباحث والكاتب هشام جعفر، في ” تعليم الأبناء، وصحة الأبدان، وأمن الشوارع، ومسكن يأوي إليه وأسرته، وضمان إمدادات الغاز والكهرباء والماء”؟

وإذا أخذنا هذا المعيار كأساس للحد الأدنى المطلوب توافره في حياة المصريين، حتى نقول إن أحوالهم المعيشية تسير بشكل معقول، فأن من المؤكد أن هذه الأحوال تدهورت بدرجة كبيرة في العقد الأخير من هذا القرن، وإنه بات من الصعب الحديث عن إصلاح هذه الأحوال بمعزل عن إصلاح وإدارة سياسية جديدة أو بتعبير جعفر، في مقاله “الإصلاح الملح”: هل يبدأ الإقصاء اقتصاديا، ثم يتحول إلى سياسي واجتماعي وثقافي؟ أم يبدأ سياسيا ثم يتحول إلى اقتصادي واجتماعي وثقافي؟

والحقيقة، إن تفاقم الأزمة الاقتصادية لا يرجع أساسا لخيار اقتصادي، يختلف حوله الناس بين اليمين الرأسمالي أو اليسار الاشتراكي، إنما بسبب أن السياسات الرأسمالية المطبقة ليس لها علاقة كبيرة بالنظم الرأسمالية الناجحة، كما أن صور تدخل الدولة في الاقتصاد ليست هي المعروفة في النظم الاشتراكية المتقدمة أو الاشتراكية المعاصرة، وبالتالي أصبحت المشكلة تتعلق في شكل الإدارة السياسية للملفات الاقتصادية، وليس خلافا حول خيار سياسي واقتصادي بعينه، عرفته مصر أو العالم في فترات سابقة.

إن المشكلة الحالية ترجع، إلى أن تدخل الدولة يتم عبر شركات، لا تدار كما يدار القطاع العام، من حيث ملكية الدولة لوسائل الإنتاج، واستفادة العاملين فيها من هذه الملكية ووجود نظام للمحاسبة والشفافية، في حين أن كثيرا من هذه الشركات تدار بطريقة “رأسمالية الدولة”، ولا تخضع لأي رقابة، كما أنه لا يوجد تقييم لأدائها في المجالات التي دخلتها، وهل حققت مكسبا أم خسارة؟ وهل فتحت أسواق جديدة أم لا؟ وهل شركات الدولة اختارت مجالات صناعية متقدمة، تطلب تكنولوجيا عالية الدقة، وتنتج سلعا استراتيجية يخشى، أو يعجز القطاع الخاص على أن يقوم بها أم؟ أنها اختارت مجالات هي في قلب نشاط القطاع الخاص، وهو أجدر على القيام بها حتى في النظم الاشتراكية الديمقراطية المعاصرة، فوجدنا شركات الدولة تدخل مجالات المقاولات والإعلام والسياحة والمقاهي والصناعات الصغيرة، وتزاحم القطاع الخاص فيها.

مشكلة الأزمة الاقتصادية تكمن في وجود خيارات سياسية بعيدة عن قواعد الحوكمة والشفافية والرشادة التي يعرفها أي نظام اقتصادي ناجح، سواء كان اشتراكيا أم رأسماليا.

فمثلا في بلادنا، سنجد هناك كثيرين يتذكرون بالخير اشتراكية عبد الناصر، والقاعدة الصناعية الكبرى التي وضعها، وقادها القطاع العام، وهناك أيضا من يرى، أن التأميم الذي جرى لشركات غير استراتيجية أضر بالاقتصاد المصري وبالنمو الرأسمالي المنتج، وظل الجدل اليميني واليساري حول تلك الفترة جزءا من نقاش عالمي بين مشروعين للحكم والإدارة، صحيح أن كلاهما تطور مع الزمن، ولم يعد التأميم هو جوهر مشروع اليسار والتيارات الاشتراكية، إنما الضرائب التصاعدية على الشركات والثروات الكبرى، كما أن اليمين وسع من برامج الحماية الاجتماعية، واعتبر أن خفض الضرائب على الشركات الكبرى أمر يساعد على جذب الاستثمارات وتقليص البطالة.

الإصلاح سيبدأ من السياسة بوضع منظومة قيم وقواعد قانونية جديدة، تنظم المجال العام بجانبيه السياسي والاقتصادي، وتترك الناس تختار بين تيار اشتراكي، أو ليبرالي أو محافظ، أي أن الأولوية هي في وضع قواعد تنظم المجال السياسي والاقتصادي منسجمة مع قيم العالم المتقدم، أو الراغب في التقدم بصرف النظر عن توجهات نظام الحكم الاقتصادية.

وقد يكون غياب قيم الرشادة والحوكمة والشفافية والمحاسبة، تفسر لنا ما جاء أيضا في مقالة جعفر، عن تراجع الإنفاق على الصحة كنسبة من الناتج المحلي؛ إذ كانت تبلغ نحو 1.5% في موازنة 2014 /2013، فيما بلغت في موازنة العام المالي الحالي 2024/ 2025 نحو 1.17% فقط من الناتج المحلي المُتوقع في نفس العام. تراجع الإنفاق على التعليم كنسبة من الناتج المحلي، إذ كانت تبلغ نحو 3.9%، في موازنة 2014 /2013، فيما بلغت في موازنة العام المالي الحالي 2024/ 2025، نحو 1.72% فقط من الناتج المحلي المُتوقع.

والحقيقة، أنه على عكس النظم الاشتراكية التي تهتم بالتعليم، وتعتبره “كالماء والهواء”، وتقدمه الدولة بالمجان لكل فئات المجتمع، كما جرى في مصر الستينيات، فإن أيضا النظم الرأسمالية تعتبر التعليم من أولوياتها وأحد شروط تقدمها، صحيح أنها لا تقدم التعليم الجامعي بالمجان في أغلب نظمها، ولكنها تتوسع في نظام المنح الدراسية للطلاب، حتى لا يخرج طالب ناجح من منظومة التعليم؛ بسبب عدم القدرة على تسديد المصاريف.

الأزمة الاقتصادية في مصر كبيرة والظروف المعيشية لأغلب المصريين شديدة الصعوبة والمطلوب، ليس رفع راية الإصلاح السياسي والديمقراطي فقط، إنما أيضا رفع راية قيم التقدم في الإنتاج والمحاسبة والشفافية والرقابة، والتي تعرفها كل النظم الراغبة في التقدم بصرف النظر عن لونها السياسي.

اقرأ أيضا الإصلاح الملح: استرداد مصر للمصريين