يشكل السودان الدولة والشعب أحد أهم معطيات الأمن القومي المصري، ويشكل أيضا أحد المعضلات الممتدة، والتي تتطلب دوما من الدبلوماسية المصرية العريقة قدرة على المتابعة والتجديد والتحديث في آليات عملها، طبقا لمحددات استراتيجية محل اتفاق مصري، ولكنها ما زالت محل جدل سوداني مرتبط ببنية الدولة، وانقسامات الشعب السوداني المعروفة عرقيا وقبليا وسياسيا.
ويبدو لنا، أن هذه المرحلة من تاريخ الصراع السوداني تكتسب أهمية كبرى بتدشين منصة جنيف للتفاوض، والتي سوف تنعقد خلال الأيام القادمة؛ بهدف وقف الحرب، وذلك كمنصة جامعة للمجهودات الدولية والإقليمية السابقة، والتي شاركت فيها القاهرة بمجهود مقدر، خصوصا بعد تولي المبعوث الأمريكي للسودان توم بيريليو، مهام منصبه في فبراير الماضي، حيث حافظ على تشاور دائم مع القاهرة، بوتيرة اقتربت من عشرة لقاءات في مصر حتى الآن.
في هذا السياق، فإن تقديرات الدبلوماسية المصرية في هذه المرحلة تتطلب تسليط الضوء على محدداتها، وقدرتها على التكيف مع تطورات الأزمة السودانية، وكذلك طرح بعض الأفكار المتعلقة بمزيد من الفاعلية في المراحل المقبلة، خصوصا مع تولي السفير بدر عبد العاطي، مهام وزير خارجية مصر، والذي افتتح عمله كوزير بخطاب في مؤتمر القوى السياسية السودانية المعقود بالقاهرة خلال يوليو الماضي، نعتقد أنه يشكل خارطة طريق للعمل المصري في السودان خلال المرحلة القادمة.
ويمكن القول، إن محددات الدبلوماسية المصرية، وإن كانت قد حافظت على استقرارها الممتد، منذ مرحلة الاستقلال الوطني في دولتي وادي النيل، فإنها قد تميزت بقدرة على المرونة والتطوير بشكل لافت خلال المرحلة الأخيرة، وذلك على صعيدي بلورة الرؤية، وتحديث الآليات، خصوصا مع الأزمة السودانية الراهنة والممتدة، منذ اندلاع ثورة السودان عام ٢٠١٨، بمرحلتيها، الصراع السياسي، ثم الصراع العسكري.
المحددات الصلبة للدبلوماسية المصرية في السودان، يمكن بلورتها في عدد من النقاط هي: – أنه لا تخلِ عن الدور المصري، ولا استجابة لأي محاولة إقصاء للقاهرة، مهما كانت قوتها أو الأطراف المشاركة فيها، وذلك عطفا على الاتجاهات السابقة للإدارة الأمريكية، وبعض حلفائها الإقليميين من عدم مشاركة مصر في مجهودات تحجيم الصراع السياسي في السودان خلال الفترة الانتقالية، سواء في أطر المبادرة الرباعية أو غيرها.
احتواء السلوكيات العدوانية في الأداء السياسي من جانب بعض الأطراف السياسية السودانية، مهما كان حجمه أو تأثيره على مصر، حيث لم يكن لمصر أي ردود سلبية بشأن إلغاء اتفاقية التكامل معها من جانب الحكومة الديمقراطية الثالثة في السودان في ثمانينيات القرن الماضي، كما احتوت مصر أداء الجبهة القومية الإسلامية المعادي لمصر على مدى تاريخ حكم البشير لفترة ٣٠ عاما، رغم شططه السياسي والإعلامي ضد مصر، بل وانخراطه في محاولة اغتيال رئيس الجمهورية المصري عام ١٩٩٥، وأخيرا مرجعيته الفكرية المرتبطة بالإخوان المسلمين عدو النظام السياسي المصري الأول منذ عام ١٩٥٢.
الفاعلية في مواجهة المجهودات الإقليمية، خصوصا من إثيوبيا التي تسعى للسطو على طبيعة الهوية السودانية المتنوعة، ومحاولة بلورة معادلات سياسية داخلية أحادية، بما يخل بمجموعات سكانية واسعة، وهي فاعلية لم تعن أبدا الإقصاء لإثيوبيا من جانب مصر، بل أن الحضور الإثيوبي في مؤتمر دول جوار السودان في يوليو ٢٠٢٣، كان لافتا؛ نظرا للعلاقات الحرجة بين مصر وإثيوبيا على خلفية أزمة سد النهضة.
أما الملامح المستجدة للدبلوماسية المصرية في السودان؛ فيمكن بلورتها حاليا في الآتي:
طرح منهج الشراكة الإقليمية في حل الأزمة السودانية، ولعل هذا ما وضح في هندسة مؤتمر جوار السودان الذي حضرته كل الدول بلا استثناء، وكذلك الترحيب بمنصة جدة، واعتبارها المنصة المناسبة للتفاوض بين الأطراف العسكرية السودانية، وذلك في بيان مؤتمر القوى السياسية السودانية بالقاهرة، وأخيرا جاءت مباحثات الرئيس السيسي، غير الرسمية مع الشيخ محمد بن زايد، في العلمين واستقبال الرئيس التشادي إدريس ديبي، في نفس التوقيت؛ وذلك بهدف بلورة توازن يقود إلى إنهاء الحرب.
حالة تفهم أكبر وأعلى وأكثر دقة بتعقيد وتركيب المشهد السوداني، وهو ما يعني إدراك حدود مؤسسة الدولة في السودان وعلاقتها بمجتمعها، في معادلة نقول عنها ضعف الدولة مقابل قوة المجتمع، وذلك تأسيسا على أنماط الإنتاج الاقتصادي في السودان الغير مرتبطة بالدولة إلى حد كبير، وحجم ودور الدولة فيه، وكذلك التكوين السوداني الراهن القائم على الانتماءات الأولية دون الوطنية.
الانفتاح على كافة القوى السياسية السودانية، ومحاولة الحفاظ على مسافة واحدة من جميع الأطراف، وهو موقف تم التعبير عنه في بيان رئاسة الجمهورية للترحيب بالثورة السودانية، بالقول إن “مصر تحترم خيارات الشعب السوداني”، على أن التطبيق الفعلي لهذه المقولة استلزم وقتا، وقد يكون هذا الوقت قد كلف مصر بعض الخسائر، وذلك في ضوء رسوخ مفاهيم البيروقراطية المصرية، وبطء حركتها ومركزية القرار فيها.
الركون إلى تقدير موقف يتبنى وقف الحرب، مهما كان ثمن ذلك، وهو الأمر الذي ترتب عليه الموقف الإيجابي من تكوين حكومة مدنية في السودان ناتجة عن توافق وطني جامع طبقا لأجندة داخلية تلبي المصالح الوطنية السودانية، طبقا لما تم التعبير عنه في مؤتمر القاهرة للقوى السياسية السودانية، ولعل هذا الموقف هو ما أتاح لمصر دورا تفاعليا مع كافة الأطراف السياسية السودانية، تم هندسته على مراحل، وعلى أسس ثنائية بين القاهرة، وكل طرف على حدة، وصولا إلى مرحلة متوقعة في حال نجاح منصة جنيف بجمع الأطراف على مائدة واحدة في خيار واقعي، فرضته توازنات القوى الداخلية كعنصر حاكم..
الفاعلية في إطار مجلس السلم والأمن الإفريقي؛ بشأن بلورة المبادرات الساعية إلى وقف الحرب السودانية، ومحاولة تطويق بعض من خطايا أطراف إقليمية في شرق إفريقية، وهي المجهودات التي انبثق عنها تنسيق بين جامعة الدول العربية، والاتحاد الإفريقي في الملف السوداني، أتاحت للجامعة العربية الحضور في اجتماع جيبوتي نهاية يوليو الماضي؛ بشأن التنسيق بين المبادرات الإقليمية والدولية بشأن السودان، بما لا يساهم في تعطيل مطلب وقف الحرب السودانية، ويمهد على صعيد مواز لمنصة جنيف المنبثقة عن منصة جدة في المرحلة المقبلة، والتي قد ينتج عنها وقف لإطلاق النار، كتطور يسعى وراءه الجميع على المستويين الإقليمي والدولي.
وطبقا للمحددات سالفة الذكر، قد تواجه الدبلوماسية المصرية تحديات مستجدة، تتطلب المزيد من المرونة والتطوير للآليات المصرية في الأزمة السودانية متعددة الزوايا.
وفي هذا السياق نقترح الآتي:
في ضوء الحفاظ على فاعلية ووزن الدور المصري، فإن الاهتمام بالانفتاح التفصيلي على المكون المدني السوداني مسألة لها أهمية كبيرة في هذه المرحلة؛ للمساهمة بشكل جاد في محاولة تحقيق توافق سوداني داخلي، يؤسس لمرحلة استقرار.
كما أن المشاركة المصرية بالخبرة المحايدة في دعم القدرات السودانية بمتطلبات فض المنازعات وبناء السلم هو أمر مطلوب وقد يكون ذلك عبر مركز القاهرة للسلام وفض المنازعات التابع لوزارة الخارجية المصرية.
ويبدو أن انعدام الأمن الإنساني المترتب على الحرب السودانية يتطلب تفاكرا وتنسيقا بين أطراف متعددة في الدولة المصرية، ذلك أن هذا الملف له شقين الأول في السودان، والثاني في مصر، على صعيد أزمة الأمن اللا إنساني السوداني في الداخل، فإن تمويل الدور المصري يعد تحديا كبيرا لمصر، حيث تم الاتجاه، أن يكون بعون خليجي، بل وتم الإعلان عن تحالف مصري قطري قبل شهور في مبادرة، لم نشهد لها تفعيلا، وهو أمر مفهوم؛ نظرا لحالة تناقض المصالح النسبية بين الأطراف، أو الرغبة في الانفراد بالعون، وهو حق لمن يملك. من هنا نتطلع لدور من جانب مؤسسة الأزهر، أو وزارة الأوقاف لغوث السودانيين في الداخل من أموال الزكاة المصرية بعد استشارة دافعي الزكاة المصريين عبر القنوات الإعلامية، ذلك أن تقاسم الفقراء لزادهم هو أقوى تأثيرا وأكثر تقديرا من أي شيء آخر.
أما على صعيد الداخل المصري فإنه من المطلوب التفكير في السياسيات المصرية الراهنة، إزاء النازحين واللاجئين، ومدى تلبيتها للاحتياجات الفعلية لهم، وكذلك مدى قدرتها في تحجيم أي احتكاكات اجتماعية متوقعة، نتيجة صدمة الحرب وتداعياتها النفسية على البشر، وارتفاع سقف التوقعات السودانية من مصر.
وربما يكون من المطلوب التعاون مع منظمات المجتمع المدني المصري في هذا الملف عبر خلق منصة تفكير وحوار مباشر، وذلك في ضوء قصور قدرات مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة أمام الأعداد الهائلة من اللاجئين من مختلف الجنسيات في مصر، وكذلك عزوف قطاعات اجتماعية من الشرائح الوسطى في الطبقة الوسطى من التسجيل في المفوضية؛ نظر لقيود الحركة والقدرة على العمل في القطاع الرسمي التي يفرضها التسجيل.
إجمالا يبدو، أن منصة جنيف للتفاوض السوداني المتوقعة سوف تواجه العديد من التحديات المتعلقة بتعقيدات المشهد السوداني، وهو ما سوف يترتب عليه أعباء مصرية مستدامة، من المطلوب أن تتعرض طوال الوقت للمتابعة والتقييم وتحديث الآليات.