لم يسر تاريخنا الحديث من مرحلة إلى أخرى، ومن تطور إلى آخر بطريقة طبيعية.
كل ولاداته “عمليات قيصرية”، وكل هزائمه “عمليات إجهاض”.
بعض الأسباب تُعزى إلى التدخلات الخارجية الضاغطة على هذه المنطقة الحيوية من العالم، لكنه يصعب فهمها بالتدخلات الخارجية لوحدها.
هناك مواطن أخرى للخلل في المجتمع السياسي نفسه، حتى باتت انتفاضاته وثوراته متصادمة ومتصارعة.
إنها آفة غياب التراكم.
بتعبير شهير لـ “نجيب محفوظ”: “آفة حارتنا النسيان”.
تغييب التراكم الوجه الآخر لآفة النسيان، أن تبهت في الذاكرة العامة التضحيات والمعارك التي خاضها البلد، وتنقطع الصلات بين ثوراته وانتفاضاته، وتطلعاته لبناء دولة حرة ومنيعة، حديثة وعادلة.
توصف وتنعت ثورة عرابي أولى حلقات الثورة الوطنية المصرية الحديثة بأقسى التعبيرات السياسية إلى حدود الاغتيال السياسي، لا من قبل سلطات الاحتلال البريطاني التي واجهته عسكريا، ولا من أسرة “محمد علي”، التي هددت وجودها في الصميم.. وإنما أيضا من قيادات ذات وزن وتأثير واحترام في التاريخ الحديث مثل، الإمام “محمد عبده”، وأمير الشعراء “أحمد شوقي”، والزعيم الوطني “مصطفى كامل”.
عندما تخفق ثورة في تحقيق أهدافها بأخطاء ارتكبتها، أو بالعمل المسلح الخارجي ضدها، فإن من يصعدون بعدها، ينتقدون قادتها، وينسبون إليهم أسباب الإخفاق.
هذه طبائع ثورات، لكنها في الحالة المصرية استحالت إلى تصفية حسابات، تجاوزت كل منطق.
من طبيعة الأمور، أن تكون هناك أكثر من قراءة للتاريخ، غير أن ثمة فارقا بين أن تكون هناك قراءات مختلفة من مواقع مختلفة لأحداث التاريخ، وبين ردم التاريخ نفسه وإهدار تضحياته الكبيرة وإنجازاته المؤكدة.
تجاهلت ثورة (١٩١٩) “أحمد عرابي”، ولم تر نفسها امتدادا وتطويرا في ظروف مختلفة دوليا وإقليميا لثورته التي جسدتها المؤسسة العسكرية المصرية الوليدة.
لم يرد اعتبار ثورة “عرابي” بصورة كاملة إلا بعد قيام ثورة (١٩٥٢).
قيل إن ثورة “يوليو” قد فعلت ذلك، لأنها أيضا ثورة عسكرية!
كان ذلك إهدارا بالتعسف لقيمة الثورة العرابية وحقها في رد الاعتبار.
لم تكن الثورة العرابية عملا مثاليا، شأن أية ثورة أخرى، لكنها مثلت في زمانها محاولة للانتقال من وضع إلى آخر أكثر عدلا ومساواة.
بذات القدر تبدت مساجلات، استهلكت زمنا طويلا بين نقاد تجربة “أحمد عرابي” حول ثورة (١٩١٩).
تلخصت وجهة نظر “الحزب الوطني”، الذي أسسه “مصطفى كامل”، في حملات وانتقادات، بعضها صحيحة وموثقة لـ “سعد زغلول”، غير أن منهج النقد الذي اتبعه كُتابه ومؤرخوه، افتقد إلى حقيقة كادت تضيع في زحام التنافس السياسي، وهي أنه أعطى ثورة (1919) رمزيتها الملهمة وتجسيدها الحي، رغم ما هو منسوب إليه من صلات وثيقة سابقة مع سلطات الاحتلال البريطاني، وأن الثورة فاجأته.
عندما جاءت “لجنة ملنر” لتقصي آراء المصريين في الاستقلال، كانت إجابة الفلاحين في الحقول واحدة: “اسألوا سعد باشا”.
في تلك اللحظة الحاسمة من تاريخ مصر، وبعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى، تجسدت إرادة الاستقلال حول ذلك الرجل الستيني.
لا يليق بأي منطق تاريخي، أن يُقال إن “سعد زغلول” سرق الثورة من الحزب الوطني حزب “مصطفى كامل” وخليفته “محمد فريد”.
الأدعى أن نناقش، لماذا أخفق الحزب الوطني في قيادة مصرـ بعد “مصطفى كامل”ـ إلى الثورة التي كانت بشائرها في الأفق؟
ـ هل لأن “محمد فريد” خليفة “مصطفى كامل”، وهو زعيم وطني مستنير وقيمته الأساسية في قوته الأخلاقية، قد غادر إلى ألمانيا هروبا من حملات الاعتقال، أم لأن الحزب الوطني نفسه، لم يكن مهيئا بطبيعة أفكاره وبرامجه؛ لأن يقود ثورة تبلورت دواعيها في عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى، ونداءات التحرر الوطني وتقوض الإمبراطورية العثمانية؟!
ثورة “يوليو” تعرضت لاتهام من نفس النوع، بأنها سرقت الثورة من الشيوعيين، أو من “الإخوان المسلمين”، وهو كلام مرسل، لا يسنده دليل، وتُعوِزه الأسباب الحقيقية لصعود تيارات وقيادات بعينها وإخفاق أخرى.
ثم إنه لا يمكن إنكار حجم شعبية “سعد زغلول” وارتفاعه إلى مستوى الحدث التاريخي في سياق مفاهيم العصر، فأغلب الانتقادات تنصب على مرحلة ما قبل الثورة لا ما بعدها.
السؤال الأول، في أية قراءة موضوعية ومنصفة لتاريخنا الحديث: أين المجرى الرئيسي؟
والسؤال الثاني، لماذا غاب عنه التراكم وتصادمت حلقاته؟.. “مصطفى كامل” ضد “عرابي”.. و”سعد زغلول” ضد “مصطفى كامل” و”عرابي”.. و”جمال عبد الناصر” ضد “سعد زغلول”، حتى وصلنا إلى تصور أن “يناير” تناهض “يوليو”، رغم أن أهدافها العامة، تكاد تكون طبعة جديدة في ظروف مختلفة، لما طمحت إليه الثورة الأم، مع إضافة الحريات السياسية ثغرتها الرئيسية.
الحقيقة- رغم أية مساجلات- إنها ثورة واحدة متعددة الحلقات، أضافت في العمق كل منها للأخرى، ومهدت لها.
أسوأ ما في القصة كلها إهدار الإرث الوطني باختلاف مدارسه وتجاربه، وإهدار خبرة التاريخ نفسه.. وهو أمر انتهى بنا في نهاية المطاف إلى اعتلال في الذاكرة الجماعية، حتى كادت تبهت المعاني الاستقلالية الحقيقية التي تراكمت، ودُفع ثمنها دمٌ.
لا يعني ذلك إغفال التباينات أو الأخطاء الفادحة التي وقعت، أو التمويه على التناقضات، وإنما وضعها في إطار موضوعي، تتعدد القراءات فيه دون نفي ما هو ثابت من التاريخ بالضرورة من تحولات ومعارك وقيم، جرى الدفاع عنها.
لا شيء يولد من فراغ ولا مستقبل، يتأسس على فجوات.
اختلاف العصور والأجيال شيء، ونفي أي صلات شيء آخر.
من حق الجيل الجديد أن يقرأ التاريخ على النحو الذي يتسق مع تطلعاته وأحلامه بلا قوة قمع، أو قهر روح.
عند كل انعطاف تاريخي مرت به مصر لخص غضبها أنبل ما فيها.
الحق في الخطأ من طبيعة أي تقدم، فالذين لا يخطئون لا يتعلمون.
في النهاية يصحح التاريخ نفسه، ويرد اعتبار تضحياته وتجاربه، أيا كانت المثالب والأخطاء.
عندما لا نصحح، فإننا نظلم الذين ضحوا بشرف لصالح من صعدوا بلا استحقاق.
غضب أي جيل جديد ليس جريمة، فهو جوهر أي حركة للمستقبل.
إذا لم يكن هناك غضب على أسباب التخلف والفساد والاستبداد، لا أمل لأي مجتمع.
نقيض الغضب المشروع الاستكانة لخيبات الأمل.