أسدل الستار على أولمبياد باريس، وانتهى حفل الختام، دون أن يثير أي انتقادات، كما حدث في حفل الافتتاح، وأسفرت المسابقات الرياضية، كما هي العادة عن وجود علاقة طردية بين الحصول على الذهب في الرياضة، وبين التقدم الصناعي والتكنولوجي والعلمي، وظلت الدول النامية في الصناعة والزراعة والبحث العلمي في ذيل قائمة ترتيب الدول في أولمبياد باريس، كما لم تحترم الدول الكبرى، كما هي العادة مقولة عدم تسييس الرياضة، وبدت كأنها مقولة تطبق حسب الهوى، والتحيزات السياسية.

وإذا بدأنا بالرسالة الأولى التي ارتبطت بافتتاح الدورة، وأثارت جدلا ثقافيا واسعا في الغرب والشرق، واتضح فيها أن مجتمعاتنا لا زالت تناقش قضايا الخلاف مع الغرب على أرضية “مسطرتنا الشرقية”، ومعاييرنا المستمدة من القيم الحضارية العربية الإسلامية، ولم تصل بعد لنقاش على أرضية احترام التنوع الثقافي لكل مجتمع، وتجربته الحضارية الخاصة، وأن المطلوب ليس اقناع الغرب بقيمنا، ولا العكس، إنما احترام كل طرف لثقافة الآخر، وعدم الإساءة لها.

وإذا نظرنا لحفل الافتتاح الذي كان مثار “الجدل الثقافي”، سنجد أن فرنسا قدمت عملا فنيا رائعا، تضمن استعراضات معقدة ومبهرة على مساحة مفتوحة، وليس ملعب مغلق، ظهر فيها جمال قلب باريس، الذي حافظ على رونقه الحضاري والتاريخي، الحكام والمحكومون، دون تشويه ببناء محور، أو كوبري، أو مباني ضخمة، يُهدم من أجلها مبان قديمة أو أثرية.

أما النقد، فتركز على بعض اللقطات السريعة التي عرضت المثلية الجنسية، وهو نقد مشروع منسجم مع منظومة القيم السائدة في بلاد الشرق بكل تنوعاتها الثقافية والحضارية، إلا أنه بدا لافتا، أن هذا النقد صاحبة حديث، لا يتوقف عن أن هذه اللقطات ستؤدي إلى انهيار قيم مجتمعاتنا بصورة، أعطت انطباعا، وكأن مجتمعنا هش ثقافيا، يمكن أن تخترقه لقطة، أو لقطتان في استعراض فني، وتجعل أغلب الناس، يتحولون ليطبقوا ما شاهدوه، وهو غير صحيح تماما.

إن مجتمعنا ومنظومة قيمه ترفض التطبيع مع المثلية الجنسية، كما ترفض ازدراء الأديان، لأن تقريبا كل حضارات العالم ترفض الخيار الغربي، فيما يتعلق بهاتين المسألتين.

ولذا لم يكن غريبا اعتراض المسيحيين في الغرب والشرق على، ما اعتُبر إساءة للسيد المسيح في عرض لوحة للعشاء الأخير في الافتتاح، وأصبح المطلوب ليس هداية الغرب “للطريق القويم”، كما يتصور البعض في بلادنا، وخاصة كثير من “الدعاة الجدد”، إنما العمل القانوني والسياسي عبر حوار حضاري حقيقي بين الغرب والشرق من أجل؛ أن يضع الغرب ضمن منظومة قيمه الأساسية قيمة أخرى، تتعلق باحترام الحضارات والثقافات الأخرى، ما دامت لا تتعارض مع  قيم إنسانية محل توافق من كل المجتمعات والثقافات، مثل رفض العنصرية وانتهاك حقوق الإنسان والتحريض على العنف تحت مسمى الخصوصية، ولكن هناك مكانا لخصوصية ثقافية، تتعلق برفض الإساءة للمقدسات الدينية أو رفض تقنين المثلية الجنسية وقبولها في المجال العام.

صحيح أن فرنسا تدين الإساءة للمؤمنين من أبناء الديانات المختلفة، فمثلا الإساءة للسيد المسيح وللعقيدة المسيحية مقبول، لكن إهانة المسيحيين كأفراد أو مواطنين مدان قانونا، ونفس الأمر ينسحب على الإسلام وباقي الديانات، والسؤال هو كيف يمكن للعالم العربي، أن يشتبك مع أوروبا وتحديدا مع فرنسا، ونقول إن الإساءة للمقدسات يمثل أيضا، إساءة للأفراد، ولا يمكن القول إن الرسوم المسيئة للرسول الكريم، وتكرار القول إن الإسلام دين يحرض على العنف، لا يسيء للمسلمين أيضا كأفراد.   

أما المشهد الرياضي، فلم يتغير عن المعتاد فالدول المتقدمة صناعيا وتكنولوجيا، وتعتمد العلم كنهج لإدارة منظومتها السياسية والاقتصادية والرياضية، هي التي تفوقت أيضا في الأولمبياد بصرف النظر عن توجهات نظمها السياسية، فجاءت أمريكا في المرتبة الأولى، وحصلت على ١٢٦ ميدالية بينهم ٤٠ ذهبا، تلتها الصين التي حصلت على ٩١ ميدالية بينهم ٤٠ ذهبا، ثم اليابان في المركز الثالث، وحصلت على ٤٥ ميدالية بينهم ٢٠ ذهبا، ثم أستراليا في المركز الرابع، وحصلت على ١٨ ميدالية ذهبا، ثم فرنسا خامسا، وحصلت على ١٦ ميدالية ذهبا، وجاءت الدول المتقدمة اقتصاديا وعلميا في المقدمة، وجاءت الدول العربية في المؤخرة، وللأسف فإن مصر لم تحصل إلا على ميدالية ذهبية واحدة، واتضح من أداء البعثة حجم المشكلات العميقة في بنية المنظومة الرياضية المصرية. 

أما المشهد الثالث الذي يذكرنا بمقولة أخرى، تُردد في بلادنا وتطبق أيضا حسب الهوى، وهي “لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة”، حيث رفعت الأولمبياد شعار “عدم تسييس الرياضة” أو على طريقتنا “لا سياسة في الرياضة ولا رياضة في السياسة”، وهي التي طبقت بصورة انتقائية في دورة باريس، وتأكد فيها كيل الدول الكبرى بمكيالين في التعامل مع كثير من القضايا السياسية.

فقد قررت الإدارة المنظمة لأولمبياد باريس منع العلم الفلسطيني من دخول الملاعب، كما يجري في كثير من البلاد العربية، واعتبرته يحمل رسالة سياسية، ما دام فريق فلسطين لا يشارك في المباراة، وإنه يجب الفصل بين الرياضة والسياسة، على اعتبار أن رفع علم دولة لا تلعب المباراة يعتبر تسييس للرياضة.

في حين سنجد أن الملاعب الأوربية شهدت رفع للعلم الأوكراني طوال العام الماضي، في مباريات لا تشارك فيها أوكرانيا من باب التضامن السياسي معها.

وقد مثل منع روسيا من المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية موقفا سياسيا صارخا، على اعتبار أنها خالفت قرار الأمم المتحدة الذي يطالبها بالانسحاب من أوكرانيا، وإذا وضعنا احترام قرارات الأمم المتحدة كمعيار لقبول مشاركة الدول في الأولمبياد من عدمه، فصحيح إن روسيا لم تلتزم بقرار الأمم المتحدة، الذي أدان الهجوم وطالب بوقفه، في حين أن إسرائيل لم تحترم طوال تاريخها إلا نادرا قرارا للأمم المتحدة، ومع ذلك شاركت في الأولمبياد.

 يقينا مشاهد أولمبياد باريس ثرية ومتنوعة ورسائلها تجاوزت المجال الرياضي؛ لتصل لأبعاد سياسية وحضارية، ستظل محل جدل محلي وعالمي.