أمريكا أعلنت يوم 23 يوليو 2024، مبادرتها الثانية بالسودان في أقل من شهر!! المبادرة الأولى، دعت الحكومة السودانية والجيش لاستئناف التفاوض مع قوات الدعم السريع عبر منبر جدة، بعد توسيعه؛ ليضم مصر والإمارات ومنظمة «إيجاد» كأعضاء مشاركين تعزيزا لفاعليته، وأقنع «وليد الخريجي» نائب وزير الخارجية السعودي، عبد الفتاح البرهان باستقبال آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا في بورتسودان، وتلقي اتصال محمد بن زايد حاكم الامارات كبداية للتفاهمات.
المبادرة الجديدة استهدفت إنهاء الحرب، بجمع الجيش فقط و«قوات الدعم السريع» في محادثات مباشرة بـ «جنيف» في سويسرا يوم 14 أغسطس 2024، وقزمت دور السعودية؛ لتصبح شريكا لسويسرا في استضافة منبر جنيف، بعد أن كانت شريكة واشنطن في رعاية منبر جدة، كما وسعت المشاركات الدولية؛ لتضم الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ومصر والإمارات كمراقبين لا شركاء.
المبادرة الجديدة أطاحت بكل ما سبقها؛ بدءًا من مخرجات منبر جدة المهمة، التي قضت بخروج المتمردين من المدن والمرافق العامة ومنازل المواطنين، وتكوين جيش وطني، يضم العناصر الوطنية اللائقة من الدعم السريع، والقبض على المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، وتفكيك نظام الإسلاميين الذي حكم البلاد في العقود الثلاثة الماضية، ومفاوضات المنامة بين الكباشي، وعبد الرحيم دقلو من 6- 8 يناير، التي انتهت باتفاق من 22 بندا، استكملوا مخرجات جدة، والمبادرات التي تبنتها «إيجاد»، ثم الاتحاد الإفريقي، ومبادرة دول جوار السودان التي دعت إليها القاهرة، ومبادرة جامعة الدول العربية، بخلاف الوساطات غير المباشرة الليبية والتركية، وأخيرًا محادثات جيبوتي بشأن السودان من 24- 26 يوليو.
التخبط الأمريكي في التعامل مع الحرب السودانية يرجع الي عدة اعتبارات:
* اعتبار الحزب الديمقراطي، أن إيقاف الحرب السودانية يمكن أن يكون ورقة انتخابية، تؤكد وجود نجاحات خارجية تدعم حملتهم، بعد أن واجهت الإدارة انتقادات من مشرعين داخل الكونجرس بفشلها في غزة وأوكرانيا والسودان.. هذا التصور دفع أنتوني بلينكن وزير الخارجية، للانفراد بالإعلان عن مبادرة منبر جنيف، دون تنسيق مع الشركاء، ووعد بحضوره شخصيا، محولا الحرب السودانية لمجرد ورقة انتخابية.
* الطمع في دعم الإمارات لحملة الديمقراطيين الانتخابية، دفع واشنطن للاستجابة لطلب إدماجها كوسيط في منبر «جدة»، ومشاركتها في تسوية الحرب، وعندما رفض البرهان، وتمسك بتنفيذ الدعم السريع لالتزاماته بموجب الاتفاق مسبقا، اقترحت منبر «جنيف»، وأهدرت منبر «جدة»، لفرض الإمارات كمراقب، وإرضائها بدفع الدعم السريع إلى المشهد، كطرف رئيسي في الأزمة، وإعادة تدوير تنسيقية القوى المدنية «تقدم»؛ لتقود العملية السياسية عقب وقف الحرب..
السياسة الأمريكية تحكمها لوبيهات المصالح بعيدا عن التزاماتها كقوة عظمى مسئولة عن الأمن والاستقرار الدوليين، وهو ما عرفت الإمارات كيف توظفه.
بدء مفاوضات جنيف
وحتى تضع واشنطن أطراف الأزمة أمام أمر واقع، بدأت في جنيف من 11 الى 18 يوليو 2024، مفاوضات غير مباشرة بين وفد الجيش وممثلي «قوات الدعم السريع»، بشأن تقديم المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين، في إطار تكليف مجلس الأمن الدولي لـ «رمطان لعمامرة» ببذل مساعٍ حميدة مع أطراف الصراع، وتنسيق الجهود الإقليمية؛ لتحقيق السلام في السودان.. حميدتي تعهد في خطاب رسمي بالالتزام بتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية بالتنسيق مع «الوكالة السودانية للإغاثة والعمليات الإنسانية»، لكن الإشكالية، أنه عاجز عن السيطرة الميدانية على تجاوزات عناصر المرتزقة والميليشيات.
تمسك «الدعم السريع» بالمشاركة في مفاوضات جنيف مع القوات المسلحة فقط، دون إقحام أي مؤسسة سودانية أخرى، قاصدا بذلك الحكومة السودانية التي ينكر وجودها، يستهدف تقنين وضعه كقوة موازية للجيش.. السلطات الأمريكية أبلغت الحكومة السودانية، أن زيارة «توم بيريلو» المبعوث الأميركي للسودان بصحبة «سامانثا باور» مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى بورتسودان، قد تحدد موعدها يوم 6 أغسطس، مؤكدة عدم مغادرتهما للمطار استنادا للتقييم الأمني للأجهزة الأمريكية، لكن الجيش السوداني رفض، وتم الغاء الزيارة.
موقف الجيش من المبادرة
وزارة الخارجية السودانية تلقت الدعوة الأمريكية رسميا، وكانت موجهة مباشرة باسم الجيش فقط، ما فرض تشكيل «خلية أزمة» من مجلس السيادة والخارجية وجهات رسمية أخرى لدراستها، حيث قررت المطالبة بضمانات، أن منبر جنيف يكون امتدادا لمنبر «جدة»، بكل ما ترتب عليه من التزامات، تقضي بالانسحاب الشامل لقوات الدعم من المدن والمرافق العامة وبيوت المواطنين والمستشفيات، ووقف تمددها، ودعت واشنطن للتشاور المسبق حول شكل وأجندة المفاوضات، والأطراف المشاركة والمراقبين، مؤكدة رفض وجود أي دولة أو جهة متورطة في دعم المليشيات ضمن الدول والجهات المراقبة قاصدة الإمارات.
قرارات «خلية الأزمة»، عكست وضوحا في رؤية الدولة لأبعاد الموقف، وحكمة في التناول، رغم خطورة ما تواجهه من تحديات، فقد شاركت في الجولات المتعلقة بالمساعدات الإنسانية وحماية المدنيين؛ لأنها لا تستطيع التخلف، عما يخفف معاناة المدنيين، لكنها اعتذرت بنعومة عن المنبر السياسي، متعللة بأن عدم التشاور المسبق معها حول أجندة الحوار، يعني عدم التسليم بشرعية وجودها، كما أن توجيه الدعوة للجيش فقط يتجاهل حقيقة كونه مؤسسة تابعة للحكومة، وكل ذلك ينتهي بمساواة غير مقبولة بين ميليشيا متمردة وجيش الدولة الرسمي.
والحقيقة أن كواليس الأزمة التي فرضت القرار السوداني، ترجع الى أن اقتصار الدعوة على الجيش ولدت مطالبات بالمشاركة من التنظيمات المسلحة المتحالفة معه، بدأت من «مني أركو مناوي» قائد «حركة تحرير السودان» حاكم إقليم دارفور، الذي رهن نجاح المحادثات بإشراكه هو و«القوة المشتركة للحركات المسلحة»، مشيرا إلى أن تقديم الدعوة للجيش وحده «أمرا مرفوضا جملة وتفصيلا، وهو يعني من الآن، أن اللقاء لن يفضي إلى شيء».
القوى الإسلامية التي تنتمي إلى حزب المؤتمر الوطني المنحل، طالبت أيضا بالمشاركة في المفاوضات، لكن القواعد الشعبية فسرت مطالبتها، على أنها تريد دعم موقف الجيش، وإيجاد موطئ قدم لها في أي اجتماع، وأثار الحديث عن مشاركتها لغطا بسبب؛ «الفيتو» الذي وضعته تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية «تقدم» حول دعوتها للمشاركة في الاجتماعات التي تمت بأديس أبابا.. وأعقب ذلك مطالبات مماثلة من جبريل وعقار وتمبور وعبد الله جنا وكتائب البراء والمستنفرين والتوم هجو وأردول، ما كان يعني، أن اقتصار الدعوة على الجيش، دون حكومة الدولة السودانية، يفتت الجبهة الداعمة للجيش المضادة لقوات الدعم.
والخلاصة، أن توظيف واشنطن للحرب السودانية انتخابيا، دفعها للبدء من نقطة الصفر في منبر جنيف، وإهدار الأسس المكتوبة الوحيدة التي تم التوافق عليها بين الطرفين المتحاربين في «إعلان جدة» لوقف الحرب، ووضع إطارا للتسوية، وأن صمتها عما حدث بعد «جدة» من تجاوزات، كان بمثابة الضوء الأخضر لتمدد الميليشيات في المدن والقرى بدءًا من نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، وانتهاءً بسنجة عاصمة ولاية سنار، دون محاولة واشنطن لجمهم.
منبر جنيف ولد مبتسرًا، أجهض احتمالات كانت واعدة بإمكانية نجاح المبادرة الأولى، لأن تواصل ابن زايد مع البرهان- رغم ما شابه من حدة- إلا أنه هيأ المناخ لتفاهمات بين بورتسودان، وأبوظبي، كان يمكن البناء عليها، بدعم ضغوط دول جوار السودان على الإمارات وإثيوبيا بضرورة وقف الحرب، لكن المبادرة الجديدة استفزت الحكومة السودانية، ودفعتها لرفض دعوة من وصفتهم بالتماهي مع المتمردين، وإمدادهم بالسلاح، وعدم قبولهم كمراقبين.
الموقف المصري
مصر لم تعلن معارضتها لجولة جنيف، لكنها تتحمس لدعمها، لأنها تعارضت مع تحركاتها الهادفة؛ لتطويق التدخلات الدولية والإقليمية في السودان، واستعادة تضامن القوى الوطنية؛ لمواجهة أزمة وجودية، تهدد كيان الدولة.. والحقيقة أن التزام مصر بموقف سلبي تجاه مبادرة جنيف، قد انطوى على مواءمة سياسية، لا تناسب ثقل مصر وحجم مصالحها الإقليمية، التي تفرض إيجابية، تتجاوز مجرد الاكتفاء بالصمت، وتتطلب وجود صوت أعلى، يعبر عن وجودها، ويعكس مصالحها، حتى لو كان إعلاميا واعيا.. إعادة توزيع الأدوار بين الدولة والإعلام، صار ملحا، في مواجهة محاولات حصار وتهميش الدور المصري لحساب مصالح قوى إقليمية أخرى، لكن إعلام مستأنس لا يحقق ذلك.
ومن ناحية أخرى، فإن هذا وقت الحوار الاستراتيجي مع واشنطن، وإذا كانت غير مهتمة بالتأثيرات السلبية للموقف في السودان على مصر والأوضاع الداخلية فيها وفي إريتريا، فعلى الأقل عليها الاهتمام بمخاطر زعزعة الاستقرار في جنوب السودان وتشاد وإثيوبيا، وهي دول هشة وحليفة لها.. واشنطن ينبغي إقناعها بحتمية مراجعة العواقب الإقليمية والاستراتيجية لانهيار الدولة السودانية، خاصة فيما يتعلق بطرق التجارة والهجرة والإرهاب الدولي والاستقرار الإقليمي.. الحوار الاستراتيجي مع الإمارات أيضا، ينبغي ألا يتأخر، وأن يتم بذل جهود عاجلة لجمع ابن زايد والبرهان في مصر، بالإضافة لتنسيق مصالح التواجد الاستراتيجي بين القاهرة وأبوظبي في منطقة القرن الإفريقي، لكن هذا موضوع آخر، جدير بتناول مفصل لاحق.