لم تزل مشكلة جزيرة الوراق، أو كما يطلق عليها أهلها جزيرة “بين البحرين” موجودة على سطح الأحداث السياسية والاجتماعية منذ سنوات طالت، إذ لم تزل قائمة تلك القضية بكافة مضامينها، وحوادثها، إذ لم يزل الصدام قائما، وليس ثم من مفر، إذ لم تزل الحكومة تسعى ما بين الحين والآخر إلى السيطرة على أرض تلك الجزيرة، بما عليها من منشآت ومساكن ومبان خدمية، وبين تمسك أهل الجزيرة بحقهم في البقاء على أرضهم وحقهم في العيش الآمن كمواطنين مصريين على أرض هذه الدولة.
ولا يمكننا بحال من الأحوال أن نهمل في هذا المقام، ما جاء في نص المادة 63 من الدستور المصري في نسخته الأخيرة، من قولها: “يحظر التهجير القسري التعسفي للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة، لا تسقط بالتقادم”، كما أن ذلك النص الدستوري يدفعنا إلى تضفيره، بما أرسته المدونات الحقوقية، حيث قد أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حظر التهجير القسري، واتبعه في ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي وافقت عليها الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 16 ديسمبر 1966، النص على حماية حق الإنسان في التنقل وعدم جواز تهجيره قسرياً.
فهل تشكل هذه النصوص ضمانة كافية لحماية أهالي جزيرة الوراق، أم أن الأمر يفوق مقدرات النصوص، وتطغى عليه لغة السياسة الغالبة، فهل استيقظت الدولة على وجود هذه الجزيرة بمن عليها من مواطنين فجأة، أو أن هؤلاء السكان قد قاموا باحتلال الجزيرة بين عشية وضحاها، أم أن هناك تاريخا، مزج ما بين الأرض والناس، وأن هذا التاريخ يؤكد قدم وجود الحياة فوق أرض الجزيرة، وأن الحكومة منذ زمن بعيد، لا تلقي بالا إلى هؤلاء المواطنين في خدماتها، تاركة إياهم في تقضية أمورهم بشكل ودي، وحل مشاكلهم بعيدا عن صخب الأروقة الحكومية. كما أن أهالي الجزيرة قد ارتضوا بمعيشتهم في ظل تراخي الحكومات المختلفة عن النظر إليهم أو إلى مشكلاتهم. فهل يحق للدولة، أن تقوم فجأة بسحب البساط من تحت يد هذا العدد الغفير من مواطنيها، وهي التي لم تفعل ذلك مع من استولى على أراضي الظهير الصحراوي، ومن قاموا بتسقيع الأراضي الحكومية المشتراة للزراعة، وحولوها إلى مستعمرات سكنية، بل تعاملت الحكومة معهم بالرفق واللين؛ مطالبة إياهم بتوفيق أو تسوية أوضاعهم، وفى ظل قانون منع الطعن على العقود التي تبرمها الدولة، وفى ظل غياب حقيقي للشفافية وتداول المعلومات، لا نستطيع أن نعلم كيف تمت هذه التسوية.
ولمزيد من توضيح الأمر، فإن ملكية أرض هذه الجزيرة تقع في فلكين، هما: الملكية الخاصة للمواطنين، والثانية التمتع بحق الانتفاع لبعض الأراضي المملوكة للدولة ملكية خاصة، وهو في الحالين ما يؤكد على الوجود القانوني لسكان الجزيرة على أرضها منذ زمن طويل، ربما لن نستطيع أن نحصيه، ولماذا توقع السلطة بنفسها في خضم الشقاق والخلاف مع السكان، إذ كان الأمر لا يتعلق بالمصلحة العامة التي تجيز للسلطة نزع الملكية للمنفعة العامة تحت ستار من القانون، إذ أنه ما يستفاد من نص المادتين 87 و88 من القانون المدني، أن الأصل في ملكية الدولة أو وحداتها أو مصالحها أو هيئاتها العامة، أنها ملكية عامة تتغيَّ منها إدارة المرافق العامة التي تضطلع بأعبائها، وأن الانتفاع بالمال العام لا يخرج عن كونه استعمالاً للمال العام، فيما أُعِدّ له، ويكون نقل الانتفاع بين أشخاص القانون العام بنقل الإشراف الإداري عليه، بدون مقابل، ولا يعد ذلك من قبيل النزول عن أموال الدولة أو التصرف فيها، إنما هو نقل للتخصيص من وجه من وجوه النفع العام إلى وجه آخر من هذه الوجوه، إذ أن المال العام يتبع التخصيص نشأة وتغييراً وانقضاءً، إلا أن نقل الانتفاع بأموال الدولة العامة بين أشخاص القانون العام، يكون بنقل أو تعديل التخصيص، وتترخص فيه الجهة التي لها الإشراف الإداري على هذه الأموال، باعتبارها صاحبة الاختصاص الأصيل في ذلك، بما لا يجوز معه لأي جهة أخرى لا ولاية لها على هذه الأموال، أن تتدخل من تلقاء نفسها بتقرير أو إنهاء التخصيص أو تغيير وجه النفع العام، دون سند من الواقع والقانون، إذ أن وصف الجهة بأنها من أشخاص القانون العام، لا يستنهض لها حقاً في تقرير أو نقل أو إنهاء وجه النفع العام للمال العام الخاضع لإشراف جهة أخرى.
لكن يبدو من طول مدة الصراع القائم بين أهالي الجزيرة، وبين الطرف الأقوى، وهو الحكومة، أن الأمر يخرج عن نطاق المنفعة العامة التي تجيز اتخاذ قرار بنزع الملكية، ولكن يبدو أن النزعة الرأسمالية والتبيعة المطلقة لصندوق النقد الدولي، قد فرضت على الحكومة اتخاذ تصرفات حيال هذه القطعة المميزة الواقعة في وسط النيل بالقاهرة الكبرى، قد يكون مشروعا استثماريا، أو يكون شراكة مع الغير، أو يكون بنايات حديثة تتسق والمعايير البنائية الجديدة، والسعي نحو الترف السكني، ذلك الذي لا يمت بأي صلة قريبة كانت أو بعيدة بغالبية سكان مصر، وليس بسكان هذه الجزيرة وحدها، لكن ذلك لا يعفي السلطة من التعامل مع الأمر وفق مقتضيات قانونية، وأسس دستورية، تدعم وجود دولة القانون، وتحسم ذلك النزاع القائم، دون العبث أو الاستهانة بحقوق مواطني هذه الجزيرة.
وما يزيد الدهشة والتعجب في هذا الأمر، على الرغم من مرور سنوات طوال على هذه القضية، أن يتخلف عن المشهد الغرفتان التشريعيتان (مجلس النواب– مجلس الشيوخ) ولا نرى لهذه القضية مشهدا من مشاهد الحياة النيابية المصرية، بما تتضمنه من أدوات نيابية، من الناحية النظرية، ذات أنياب في مواجهة أي شطط أو عسف من السلطة، أم أن أمر هذه الجزيرة بأهلها، بات لا يهم حتى ممثليها في هاتين الغرفتين، فعلى الرغم من قرب نهاية أجل البرلمان المصري، والعودة إلى مواسم الانتخابات النيابية، وهو ما يجعل هناك محكا انتخابيا بين المرشحين الذين سوف يمثلون هذه المنطقة الجغرافية، كدائرة انتخابية، لكن لم يبدِ أي من النواب أو غيرهم من الطامحين في التمثيل النيابي أي تضامن مع سكان الجزيرة، قد يشفع لهم، إذا ما نفر نفير الانتخابات.
ولكن نعود بالقضية إلى صلبها الحقيقي، ومكونها الرئيسي، وهي قضية الأرض، وقضية التهجير، وقضية الاستثمار الذي بات غالبا على كل قطاعات الشعب، ونعود إلى التساؤل الرئيسي، لماذا لا تنحاز الحكومة لجانب القانون سواء في تعاطيها مع هذه القضية، أو مع غيرها من القضايا، بما يعلي من شأن سيادة القانون وخضوع الدولة للقانون.