أرسلت الحكومة المصرية لأولمبياد باريس بعثة هي الأضخم والأكثر “إبهارا” في تاريخ العرب وإفريقيا.
الدوافع السياسية حفزت الدعم المالي والمعنوي غير المسبوق، فمع مرور الأوضاع السياسية والاقتصادية المصرية بمرحلة حرجة، يسعى النظام السياسي لجني مكاسب سياسية، خارجيا وداخليا، من خلال إحراز الإنجازات الرياضية.
حجم البعثة جعل الآمال المصرية تحلق للسماء، لكن على أرض الواقع لم يكن الأداء موفقا، فسرعان ما تكررت الإخفاقات والهزائم والأزمات.
وباتت البعثة الأولمبية ممثلة لجميع العلل في السياسة والإدارة المصرية من المحسوبية، وسوء الإدارة وعدم المراعاة لحقوق وقضايا النساء.
سياسة الأولمبياد
يحرص كبار المسئولين حول العالم على الظهور أمام الكاميرات مع اللاعبين المحليين المشاركين في المحافل الرياضية الدولية؛ فالتنافس الرياضي في الألعاب الدولية مثل الأولمبياد، له أبعاد سياسية، تتعلق بصورة وشرعية الدولة.
يجادل كيفن فريمان في دراسة، بأن الحكومات عموما، والتي تمر بأزمات خصوصا، تهتم بالمشاركة في المسابقات الرياضية الدولية وتحقيق الميداليات لعدة أسباب، فمحليا تعمل الانتصارات الرياضية على تأجيج المشاعر القومية في المجتمع، وتعزيز شرعية النظام السياسي. وخارجيا، تتحول الإنجازات الرياضية لأداة قوة ناعمة، يتباهى بها المسئولون؛ لتحسين الصورة والسمعة الدولية لدولهم وحكوماتهم.
هذا التحليل ينعكس بوضوح في المشاركة المصرية في أولمبياد باريس، ففي الوقت الحالي، يواجه النظام السياسي عددا متزايدا من الأزمات السياسية والاقتصادية.
سياسيا، هناك ضغوط داخلية وخارجية تطالب بالإصلاح السياسي، وتحسين أوضاع حقوق الإنسان. واقتصاديا، يزداد الاستياء الشعبي مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، وارتفاع أسعار الخدمات، والتضخم في أسعار السلع.
وكان من المأمول أن تحقيق إنجازات رياضية في الأولمبياد، مصاحبا بالإبهار المرتبط بحجم المشاركة المصرية، سيساهم في تعزيز شرعية النظام السياسي، والتخفيف من حدة السخط المجتمعي، إضافة إلى تقديم صورة براقة للدولة أمام المجتمع الدولي.
البعثة الأكبر.. والخيبة الكبرى
البعثة المصرية هذا العام هي الأضخم، ليس في تاريخ مصر فقط، بل في إفريقيا والعالم العربي، بعدد 164 لاعبا في 22 رياضة أولمبية.
انفقت مصر 1.25 مليار جنيه لدعم وإعداد الاتحادات الاولمبية، وخصص المسئولون مكافآت مالية سخية لمن سيفوز بالميداليات (5 ملايين للذهبية، وأربع للفضية وثلاث للبرونزية، بالإضافة الى مكافأة فورية وساعة يد). وقبيل الأولمبياد، كرم الرئيس المصري الرياضيين الحاصلين على ميداليات في دورة الألعاب الإفريقية؛ لتحفيز المشاركين منهم في الأولمبياد.
أحرزت مصر ست ميداليات خلال أولمبياد طوكيو 2020، ونظرا لحجم البعثة هذا العام والأموال المنفقة عليها، كان من المتوقع أن تحقق عددا أكبر، أو العدد نفسه على الأقل.
قبل بداية الأولمبياد، أعلن وزير الشباب والرياضة، أن البعثة الأولمبية ستحقق بين ست وعشر ميداليات، خاصة في رفع الأثقال والسلاح والتايكوندو والمصارعة والرماية والخماسي الحديث، وكرة اليد، و استبعد الوزير أن تحصل مصر على ميداليات في كرة القدم.
أداء البعثة لم يكن على مستوى التوقعات، حيث خسرت في الألعاب الجماعية مثل كرة اليد، وحل لاعبو رياضات الشراع، ورماية السكيت، ورمي الرمح، في المراكز الأخيرة،
كما توالت الهزائم في ألعاب مثل، تنس الطاولة والرماية والملاكمة والشيش والغطس والسباحة التوقيعية والوثب، وحتى اللاعبون البارزون ذوي التصنيف العالمي مثل، زياد السيسي، ومحمد حمزة وعزمي محيلبة وعبد اللطيف منيع، في الشيش والرماية والمصارعة الرومانية، لم يحققوا ميداليات.
لم تحقق البعثة إلا ثلاث ميداليات. ذهبية أحمد الجندي، في الخماسي الحديث، وبرونزية محمد السيد في سلاح المبارزة، وفضية سارة سمير في رفع الأثقال.
وأصاب وزير الشباب والرياضة في أحد توقعاته، حيث انسحق فريق كرة القدم المصري بشكل مخجل أمام المنتخب المغربي بسداسية نظيفة، وبدلا من أن يحصل المنتخب المصري على برونزية تاريخية في أكثر الألعاب الجماهيرية، توج بهزيمة تاريخية بهذا الفارق الكبير.
وفي نهاية المطاف، عجزت نتائج البعثة الأولمبية المصرية عن تعزيز شرعية النظام السياسي، كما كان مرجوا.
بل أن الهزائم المتكررة أثارت استياء المصريين، واشعلت عاصفة من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي. ووصل الأمر إلى البرلمان، حيث تقدم نواب بطلب إحاطة بشأن فشل البعثة، وطالبوا بمحاسبة المتورطين في هذا الفشل.
ضخ أموال في نظام عليل
المؤسسات الرياضية المصرية، مثلها مثل المؤسسات الأخرى، تطالها الواسطة والمحسوبية وسوء الإدارة.
وتصريحات لاعب تنس الطاولة عمر عصر، الذي شارك في الأولمبياد، كشفت أسباب الفشل. قال عصر إن اتحاد تنس الطاولة ألغى معسكرا تدريبيا بشكل مفاجئ، قبل موعده بثلاثة أيام، ودون تعويضه بمعسكر آخر.
وأضاف أن الاتحاد يكتفي بالتقاط الصور مع الرياضيين عقب الانتصارات، بينما لا يقدم أي دعم لهم حتى في حال الإصابة.
كما كشف عصر عن المحسوبية في الاتحاد. فالمدير الفني هو شقيق رئيس الاتحاد، وتلك العلاقة الأسرية تمنع اللاعب من رفع المشاكل للجهاز الإداري، إضافة الى أن نجل المدرب يعمل مسئولا للمراسلات، وينسى إرسال أسماء اللاعبين للمشاركة في البطولات.
في تصريحات مشابهة، أكد لاعب المطرقة مصطفى الجمل، أن الاتحاد لم يقدم أي دعم له أو لزملائه الذين شاركوا في الأولمبياد، وأنه يلعب بدون مدرب منذ نوفمبر 2023.
كما أن الاتحاد لم يلبِ مناشداته بتنظيم معسكرات خارجية له ولزملائه، وأرسل لاعبين لم يتأهلوا للأولمبياد إلى معسكرات خارجية بدلا منهم.
إضافة الى عدم كفاءة المدرب المجري الذي تعاقد معه الاتحاد حديثا، رغم الشكوك المثارة حوله، فيما يخص تعاطي المنشطات، حيث سحبت منه اللجنة الأولمبية الميدالية التي فاز بها في 2004؛ بسبب تزوير عينات.
قضايا المرأة مهدرة أيضا
يتضح أيضا إخفاق الاتحادات، وأدائها القاصر في التعامل مع اللاعبات وقضاياهن المرتبطة بالرياضة والنوع الاجتماعي.
يمنى عياد.. لاعبة مصرية من دمياط، كانت على وشك أن تحقق انجازا تاريخيا، وتصبح أول لاعبة ملاكمة مصرية تشارك في الأولمبياد. ولكنها فوجئت باستبعادها بسبب؛ زيادة وزنها 700 جرام عن الوزن الذي يؤهلها لدخول المنافسة، رغم أن وزنها الليلة السابقة كان 54 بالضبط. علقت اللجنة الأولمبية المصرية قائلة، إن اللاعبة زاد وزنها عقب وصولها لباريس، ونجحت بخسارة الوزن مجددا، لكن اللاعبة مرت “بتغيرات فسيولوجية وهرمونية مفهومة لكل السيدات والآنسات والأطباء” على حد تعبير بيان اللجنة الرسمي، ثم أضاف البيان “نتحفظ على ذكر التفاصيل طبقا لأعرافنا وتقاليدنا المصرية، وحفاظا على حقوق ونفسية اللاعبة.”
يستشف من بيان اللجنة المصرية، أن الدورة الشهرية هي سبب الزيادة المفاجئة، وحدوث تغيير جسدي مفاجئ نتيجة الدورة الشهرية هو أمر طبيعي ومفهوم، واستبعاد يمنى، يشير الى أن قواعد الرياضة وقوانينها حول العالم لا تراعي التغيرات الطبيعية في جسد المرأة. ولكن تلك الحادثة تكشف بشكل خاص قصور البعثة المصرية والفريق الطبي المرافق الذي كان دورهم تجهيز اللاعبة، تحسبا لحدوث مثل تلك الزيادة في الوزن.
رئيس اتحاد الملاكمة في تصريحاته الأولية قبل التحقيق، سارع بإلقاء باللوم على اللاعبة، وقال إن يمنى غير مرشحة للفوز بميدالية من الأساس.
وبعد تبين الأسباب، لم يتحسن الخطاب الرسمي كثيرا. فبيان اللجنة الأولمبية المصرية يكشف عن انعدام الحساسية تجاه احتياجات اللاعبات، وعدم الدراية بالطريقة المناسبة لعرض قضايا، ترتبط بالنوع الاجتماعي.
حيث تحفظت اللجنة في بيانها عن ذكر الدورة الشهرية بشكل صريح، ووصفتها بالتغيرات “الفيسيولوجية والهرمونية” المفهومة للنساء والأطباء، معللين تلك العبارات المبهمة، بما أطلقوا عليه “أعرافنا وتقاليدنا المصرية.”
إن كان يتوجب على اللجنة التحفظ على شيء؛ فهو إصدار مثل هذا البيان المعيب الذي يخجل من ذكر الدورة الشهرية بشكل واضح.
رددت ورسخت اللجنة الأولمبية المصرية خلال هذا البيان الوصم المجتمعي المرتبط بالدورة الشهرية.
هذا البيان المحافظ والمناقض لحقوق المرأة صدّر صورة سلبية داخليا وخارجيا، و المفارقة أن يخرج مثل هذا الكلام خلال وقت ،تنتشر فيه حملات عالمية، في صدارتها منظمي الأولمبياد ولاعبات بارزات والشركات الموفرة لمنتجات الدورة الشهرية في الأولمبياد، لتشجيع الرياضيات على الحديث عن الدورة الشهرية بشكل علني على وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الوعي بين الفتيات وكسر الوصم.
وبالفعل تحدثت عنها عدة لاعبات أولمبياد (مثل إيلونا ماهر) عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، كما أن أولمبياد باريس تتفاخر بتوفير منتجات الدورة الشهرية للرياضيات في جميع أنحاء وغرف القرية الأولمبية.
في واقعة أخرى، اتهمت فتاة فرنسية لاعب المصارعة المصري محمد إبراهيم، “كيشو” بالتحرش بها في إحدى البارات، و بعد مراجعة الكاميرات حفظت السلطات الفرنسية التحقيق لعدم كفاية الأدلة.
ردود فعل اللجنة الأولمبية المصرية والاتحاد عقب ظهور الاتهامات كانت لافتة، حيث أعلنت اللجنة المصرية إحالة كيشو للتحقيق على خلفية، ما أطلقوا عليه “تصرفات غير مسئولة” على حد تعبير البيان الرسمي.
ورغم أن اللجنة تعاملت مع الاتهام بشكل جاد، وأحالت كيشو للتحقيق، لكن وصف اتهامات التحرش الجنسي “بتصرفات غير مسؤولة” فيه استهانه وتقليل من فداحة جرم الاعتداء الجنسي.
هذا الخطاب الذي ينم عن تهاون، انعكس أيضا في تصريحات لرئيس اتحاد المصارعة الذي قال، إن وزير الشباب والسفير المصري في فرنسا يحاولان التوصل لحل لأزمة كيشو؛ لأن الأمور في فرنسا “مغلقة … مش زي عندنا مثلا، ممكن تروح بواسطة.”
كثير من الإبهار قليل من الإنجازات
وجدت السلطات المصرية في الأولمبياد فرصة لحصد مكاسب سياسية داخليا وخارجيا، ولهذا كانت آمال الحكومة معقودة على التباهي بالإنجازات الرياضية والميداليات الأولمبية التي ستحصدها البعثة التاريخية الأكبر والأكثر إبهارا.
ولكن يبدو أنه مهما تعاظم الدعم المالي والمعنوي، سيظل استفحال المحسوبية وسوء الإدارة وعدم مراعاة حقوق وقضايا الفئات الأضعف معرقلا لتلك المساعي. وأتت المشاركة المصرية في الأولمبياد بنتائج عكسية، وأفضت لتصدير صورة تدل على الخيبة والفساد ومناقضة حقوق المرأة.