ديكتاتوريات أوروبا المسيحية المؤمنة المتدينة في العصور الوسيطة، كانت تؤمن أن السيادة لله في السماء، وأنه فوض السيادة في الأرض للملوك الذين يحكمون باسم التفويض الإلهي أو الحق الإلهي، كانوا يمارسون الديكتاتورية كحق مكتسب بتفويض من الله، وقد كافحت الشعوب الأوروبية هذا الاعتقاد قريباً من ألف عام، من الانتفاض والثورات، بعضها انقطعت فيه رقاب الملوك، كما حدث في بريطانيا عند منتصف القرن السابع عشر، ثم في فرنسا عند خاتمة القرن الثامن عشر، ألف عام من النضال، حتى نقلت أوروبا حق السيادة من الملوك إلى الشعوب، وإذا جاز القول، إن السيادة لله ، وإذا جاز القول إن السيادة في الأرض تقبل التفويض، فمن العدل أن يكون تفويضها من الله للشعوب أو لمطلق الإنسان، وليس تخصيصها للحكام من دون بقية خلق الله. دفعت شعوب أوروبا- على مدى ألف عام- كافة الأثمان المطلوبة؛ لتكون السيادة للشعب، وليست لطبقات الحكم تتوارثها عن الله، ثم تتناوب عليها فيما بينها. الصورة في أوروبا باتت واضحة وضوح الشمس بلا لبس ولا غموض: السيادة للشعب، الشعب وليس الله، وليس الملوك، الشعب هو من يختار الحكام ومن يعزلهم، وبين اختيارهم وعزلهم يراجعهم، وينتقدهم ويحاسبهم ويسائلهم ويحاكمهم، لا يخاف منهم ولا يخشاهم ولا ينافقهم، ولا يتقرب إليهم، حتى يتقي شرورهم وينال منافعهم، ومن باب أولى لا يقدسهم ولا يمجدهم؟، ولا يراهم أرباع ولا أخماس ولا أعشار آلهة، الإنجاز العظيم الذي تفردت به أوروبا في تاريخ البشرية، هو أن الحاكم رئيس، كان أو ملكاً، هو بشر مثل كل البشر، ابن تسعة مثل كل أبناء التسعة، الكرسي لا يصنع منه بشراً أسمى، والمنصب لا يصنع منه إلهاً، وهالة السلطة لا ترفعه فوق أي مواطن، مهما تضاءل مركز هذا المواطن في السلم الطبقي والاجتماعي.
الدستور الإيراني، والدستور المصري، نموذجان مثاليان، للدلالة على نقيض الحالة الأوروبية، وذلك بالرغم من أن إيران، ثم مصر من الدول التي سبقت منذ مطلع القرن العشرين إلى ثلاثة أمور: الثورة، المطالبة بالحكم الدستوري، رفض الهيمنة الأجنبية. وهذه الأمور الثلاثة لها معنى واحد: النضال؛ لكي تكون السيادة للشعب لا للحكام المتسلطين، ولا للقوى الأجنبية المهيمنة. الدستور المصري يجسد نموذج التناقض الحاد بين النصوص النظرية في متن الدستور والواقع العملي في الحياة السياسية، فمثلا: المادة الرابعة من الدستور المصري تقول: “السيادة للشعب وحده”. هذا وضوح ممتاز على المستوى النظري، لكن في الواقع العملي لا سيادة للشعب على الإطلاق، السيادة الفعلية العملية يملكها فقط رئيس الجمهورية، السيادة ليست للشعب، السيادة لرئيس الجمهورية وحده فقط.
الدستور الإيراني، في الفصل الخامس، تحت عنوان “سيادة الشعب والسلطات الناشئة عنها” نقف عند مادتين:
المادة 56: “السلطات المطلقة على العالم، وعلى الإنسان لله، وهو الذي منح الإنسان حق على مصيره الاجتماعي”. هذا غموض والتباس لا تستبين معه الإجابة على السؤال: السيادة في السياسة والحكم لمن؟.
المادة 57: “السلطات الحاكمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتمارس صلاحياتها بإشراف ولي الأمر المطلق، وإمام الأمة”. هنا وضوح لا غموض فيه “ولي الأمر المطلق وإمام الأمة”. الشعب الإيراني الذي كافح استبداد الملوك على مدار القرن العشرين من فاتحته، حتى الثورة الإسلامية 1979م، لم يحصد غير، ما كافحت أوروبا ضده ألف عام، حصد نوعاً جديداً من الحكم بالتفويض الإلهي، ولي الأمر المطلق وإمام الأمة. وبما أن ولي الأمر المطلق فوق السلطات الثلاث فهو يستمتع- بنصوص الدستور- بكم وحجم سلطات وصلاحيات مرعبة، نموذج مثالي للطغيان الشرقي، وما السلطات الثلاث غير قليل من كثير من الأدوات والأجهزة والمؤسسات في يد ولي الأمر المطلق وإمام الأمة.
المادة 110 من الدستور الإيراني، وضعت كل شيء بين يدي ولي الأمر المطلق، وإمام الأمة، فتحت عنوان “وظائف القائد وصلاحياته، نقرأ سلطات وصلاحيات تنافس، بل وتزيد على سلطات وصلاحيات رئيس الدولة سواء في مصر، أو في أي ديكتاتورية عربية، فهو من يضع السياسات العامة للدولة بالتشاور مع مجمع تشخيص مصلجة النظام، ثم هو من يشرف على تنفيذ هذه السياسات العامة، وهو من يصدر الأوامر بالاستفتاءات العامة، وله منصب القيادة العامة للقوات المسلجة، وله إعلان الحرب والسلام والنفير العام، وله تنصيب وعزل وقبول استقالة قيادات أخطر ست مؤسسات في الدولة وهم: فقهاء مجلس صيانة الدستور، المسئول الأعلى في السلطة القضائية، رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، رئيس أركان القوات المسلحة، القائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية، القيادات العامة لأفرع القوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي. وله حل المنازعات وتنظيم العلاقات بين السلطات الثلاث، وله من خلال مجمع تشخيص مصلحة النظام حل مشكلات الدولة التي لا يتيسر حلها بالطرق المعتادة، وله اعتماد تعيين رئيس الجمهورية بعد انتخابه، كما له عزل رئيس الجمهورية بعد إدانته من القضاء أو من مجلس الشورى.
ولي الأمر المطلق وإمام الأمة من ناحية النصوص الدستورية، فهو محظوظ أكثر من رئيس الجمهورية في مصر؛ لأن دستور مصر نصوصه أكثر حداثة وديمقراطية، لكن من الناحية العملية، فكلاهما محظوظ، كلاهما يستحوذ على سلطات تتفوق على سلطات ملوك الحكم بالحق الإلهي في أوروبا العصور الوسيطة، ففي إيران ولي الأمر المطلق، وإمام الأمة هو كل شيء، وكذلك في مصر، فإن رئيس الجمهورية هو كل شيء. في مصر منصب رئيس الوزراء تابع، وهامشي وغير ذي أصالة وغير ذي استقلال عن منصب رئيس الجمهورية، منصب رئيس الجمهورية في مصر قاهر فوق كل من دونه من المناصب، وذلك بالرغم من أن دستور 2014 منح رئيس الوزراء سلطات غير مسبوقة، لكن بقي التقليد العملي هو الحاكم: رئيس الجمهورية هو كل شيء، رئيس الوزراء منصب تابع تبعية كاملة حد الامتثال والإذعان، عرف وعادة وتقليد راسخ، حتى لو تم تعديل الدستور، بما يزيد من صلاحية وسلطة رئيس الوزراء، سوف تظل العلاقة بين قوي ومنزوع القوة وبين متبوع وتابع شديد الامتثال.
في الدستور الإيراني منصب رئيس الجمهورية الإيرانية الإسلامية هو المكافئ والمعادل، والمساوي لمنصب رئيس الوزراء في مصر، ولهذا فإن الدستور الإيراني ألغى منصب رئيس الوزراء، فلا ضرورة له، ويقوم به عملياً رئيس الجمهورية، فهو ليس أكثر من رئيس وزراء بالمعايير المصرية. نقرأ في الفصل التاسع من الدستور الإيراني، تحت عنوان السلطة التنفيذية، المبحث الأول، رئاسة الجمهورية والوزراء، نقرأ المادة 113 تقول: “يعتبر رئيس الجمهورية أعلى سلطة رسمية في البلاد، بعد مقام القيادة، وهو المسئول عن تنفيذ الدستور، كما أنه يرأس السلطة التنفيذية، إلا في المجالات التي ترتبط مباشرةً بالقيادة”. ومعنى المادة، رئيس الجمهورية في إيران مثل رئيس الوزراء في مصر ليس أعلى سلطة وليس القيادة، وله صلاحيات محدودة، لا يتجاوزها مقارنة بالصلاحيات غير المحدودة لولي الأمر المطلق وإمام الأمة، كما تلقبه المادة 57، وكما تذكر صلاحياته المادة 110.
وكما أن رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب محدود الصلاحيات إلى جانب ولي الأمر المطلق وإمام الأمة، فكذلك مجلس الشورى المنتخب محدود الصلاحيات إلى جانب مجلس صيانة الدستور، تنص المادة 91 على: “يتم تشكيل مجلس باسم مجلس صيانة الدستور بهدف؛ ضمان مطابقة تشريعات مجلس الشورى الإسلامي مع الأحكام الإسلامية والدستور”.
مجلس صيانة الدستور موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.