لم يكن “سيد حجاب” شاعرا اعتياديا وأغانيه، ما زالت تتردد نصوصها على شبكات التواصل الاجتماعي، كأنها خلاصة تجارب السنين، وما استقر عميقا في الوجدان الجماعي.
في كل وجدان مصري وعربي شيء من أحلامه التي تأبى على رفع الرايات البيضاء.
“من اختمار الحلم يجي النهار
يعود غريب الدار لأهل وسكن”.
هكذا أنشد مقدمة “ليالي الحلمية”، الذي ألفه “أسامة أنور عكاشة” عن قصة عائلة مصرية، عاصرت ما قبل ثورة يوليو إلى الوقت الذي كتب فيه المسلسل ثمانينيات، وتسعينيات القرن الماضي على خمسة أجزاء.
لم تستهوه، وهو الشاعر اليساري الذي قرأ طويلا في التاريخ الحديث، وله انحيازاته التي لا يخفيها، أية مباشرة.
أضفى من روحه على التاريخ حسا إنسانيا وفلسفيا.
قوة شعره في عمق فلسفته.
بسيطا وعميقا في الوقت نفسه.
“منين بيجي الشجن.
من اختلاف الزمن”.
باختلاف الأزمان وانكسار الاحلام الكبرى، يسري الشجن في القلوب.
هذا هو حال مصر الآن، بلد غاضب لكن شجنه لا يفارقه.
الاختيار نفسه تكرر في “بوابة الحلواني”، الذي ألفه كاتب سيناريو كبير آخر “محفوظ عبد الرحمن”.
“وندق ندق بالأيدين بوابة الحياة قومي
افتحي لولادك الطيبين قومي”.
موضوع العمل الدرامي يغري بالمباشرة في التطرق إلى مرحلة حفر قناة السويس، وما شهدته مصر من نهضة فنية وعمرانية غير مسبوقة وقت الخديو “إسماعيل”، وما تلاها من انكسار بأثر الاستغراق في الديون الخارجية ومؤامرات الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، لكنه مضى في اتجاه آخر مخاطبا عمق الضمير العام.
“أجي أحقق الحلم ألقى الموج عالي
عالي يا صاحبي”
لحن “بليغ حمدي” تلك الكلمات، كأنها رقصة البجعة الأخيرة، غاب طويلا، وعندما عاد أودع لحنا استثنائيا.
بطبيعة نظرة “سيد حجاب” للحياة، والزمن والسياسة عاد في “الحلواني” لهاجسه المقيم.
“ونعود سوا نطوي الأيام بالحنين”.
لم يكن ينشد لمصر “حلوة الحلوات” في المطلق المجرد بقدر، ما كان ينشد لجيل، يعاني وأحلام تحبط، دون أن يخامره يأس في مستقبل آخر.
الزمن وتقلباته الحادة وأحلامه المحبطة فكرة جوهرية في شعره.
“وينفلت من بين أيدينا الزمان
كأنه سحبة قوس في أوتار كمان”
هكذا أنشد في “أرابيسك” أحد أبرز أعمال “أسامة أنور عكاشة” من ألحان توأمه الفني “عمار الشريعي”.
في ذلك العمل تبدت مهاراته في البناء الشعري.
صاغ النص، كأنه قطعة من الأرابيسك لكن بالكلمات لا الأخشاب.
تبدت قدرته الخاصة على إلهام المستمعين، دون مباشرة حتى لو كان الكلام مباشرا.
“أهلك يا تهلك
وأنت بالناس تكون”.
لم يكن رهانه على ثورة “يناير” محض تأثر عابر بحدث جلل.
بروحه وأفكاره وشعره راهن على يوم، يسترد فيه المصري أمله في حياة، لا تخضع لـ: “أصحاب معالي الذلة والانكسار”.. “أصحاب فضيلة الغل على اللي استنار”، كما أنشد شعرا في ديوانه الأخير “الطوفان اللي جاي” قبل الثورة بشهور.
بحس الشاعر استشعر، أن انفجارا هائلا على الأبواب.
وبرؤية السياسي آمل ألا يفضي لإحباط هذه المرة، لكنه أحبط من جديد باختطاف الثورة، وانكسار رهاناتها الكبرى.
كان رجلا متسقا مع نفسه، لم يقف على باب رئيس ولا أنشد في مدح سلطة.
ابتعد عن الضوء وابتعد الضوء عنه ولم يأخذ حقه الذي يستحقه شأن أنداده من الشعراء الكبار.
مات شبه وحيدا على سرير مرض، دون أن يعرف أحد تقريبا، أنه يعاني ويوشك أن يغادر الحياة، التي أضفى على معانيها أنبل القيم، وأفضل ما في النفس البشرية.
في جيله ثلاثة شعراء عامية لهم وزن وتاريخ وأثر، اختلفوا على نحو فادح، وكان يستحيل أن يجمعهم لقاء واحد: “عبد الرحمن الأبنودي”، و”أحمد فؤاد نجم”، وهو.
بعد انقضاء الشعراء الثلاثة الكبار بالرحيل، بقيت الحقيقة وحدها، أنهم لا يعوضون، وأن كلا منهم أبدع وألهم ويبقى إبداعه في ذاكرة الشعر لا ينسى ولا يمحى.
القيمة وحدها تقول كلمتها الأخيرة في نهاية المطاف.
اكتسب “الأبنودي” فرادته من روحه الملحمية التي لا يجاريه فيها أحد.
واكتسب “نجم” فرادته من تمرده الثوري الذي لا مثيل له في تاريخ الشعر المصري الحديث.
واكتسب “حجاب” فرادته من مقدمات المسلسلات، فهي ميدانه الذي لا يجاريه فيه أحد، وهو سيد الأغنية الدرامية التلفزيونية بلا منازع.
وقد تأثر ثلاثتهم بأسلافهم الكبار من شعراء العامية المصرية.
في البدء أبدع “بيرم التونسي” و”بديع خيري” في أجواء ثورة (١٩١٩)، وما بعدها؛ طلبا لاستدعاء الهمم في مواجهة سلطة الاحتلال البريطاني.
ثم “فؤاد حداد” و”صلاح جاهين” و”نجيب سرور” في أجواء ثورة (١٩٥٢) ما قبلها، وما بعدها طلبا للعدل الاجتماعي.
الأول، بالإخلاص المطلق لأهدافها، رغم أنه أودع سجونها.
والثاني، بقدرته الاستثنائية على رصد التحولات وصياغة الأحلام الكبرى التي صاحبت ثورة يوليو.
والثالث، بالتمرد عليها مخلصا بالعمق لأفكار العدل الاجتماعي والتحرر الوطني.
لا يولد جيل من فراغ، وأسوأ ما هو جار الآن، أن التجريف الثقافي أخذ مداه، وأحبطت كل الرهانات على بيئة عامة، صحية وحديثة، تحتضن المواهب وترعاها، لا أن تستعديها وتستبعدها.
في رهانه على المستقبل شارك في أعمال لجنة “الخمسين” لوضع الدستور، وكلف بصفته شاعرا، أن يكتب ديباجته.
من مفارقات الحياة والموت عند تجلي المعنى، أنه رحل في ذات اليوم الذي اندلعت فيه ثورة (٢٥) يناير بعد ست سنوات عام (2017).
“حبيبتي من ضفايرها طل القمر
وبين شفايفها ندى الورد بان”
“الموت والاستشهاد عشانها ميلاد
وكلنا عشاق ترابها النبيل”
هكذا أنشد أغنية مشهد النهاية لفيلم “كتيبة الإعدام” ضد خونة الأوطان ولصوص الانفتاح الاقتصادي.
لم يكن اختيارا عشوائيا تكليفه بكتابة ديباجة الدستور.
في وقته وحينه بدا دستور (2014) إنجازا استثنائيا، وربما وحيدا، لثورة “يناير”، حيث انطوى على حريات وحقوق سياسية واجتماعية وثقافية غير مسبوقة.
بقوة الدستور، فإن ديباجته جزء لا يتجزأ منه، وما تنطوي عليه من صياغات، تعلو أي قانون أو سلطة.
رغم رحيل “كاتب الديباجة”، فإن ما صاغه، واستفتى المصريون عليه، ما يزال صلب الصراع على المستقبل، أن تكون هناك دولة مدنية ديمقراطية أو لا تكون؟!
الذين يمقتون “يناير” يتوهمون، أن مشكلتهم مع ديباجة كتبها شاعر، بينما أزمتهم، أنهم لا يقرأون التاريخ، كما قرأه “سيد حجاب”، ولا يفهمون أنه لا يعود للخلف أبدا، مهما أدلهمت الأحوال.
إنه اختمار الحلم مجددا.