منذ أسبوع مضى، لم تتوقف الأحاديث عبر الصحف والمواقع الإخبارية عن قرار وزير الصحة بإلغاء تكليف الأطباء بداية من العام المقبل، ومدى علاقة ذلك بتوفير أطباء في كافة المستشفيات، وخصوصا مع صدور القانون رقم 87 لسنة 2024، وهو القانون الخاص بمنح التزام المرافق العامة؛ لإنشاء وإدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية، وقد جاء هذا  القانون المستحدث، بشكل لا يوفر أي التزام من هذه الالتزامات، إذ أنه في قالبه الرئيسي، لا يعدو سوى قانون لتقنين آلية استغلال المنشآت الصحية القائمة والمملوكة للدولة، وهو ما يعني، أن الدولة تسعى أن تخرج، ولو بشكل تدريجي أو بحصة أو نسبة محددة، وهذا ما ينذر بمزيد من الأزمات المجتمعية، ومن زاوية ثانية فإن سياق التشريع على هذه الوتيرة يضع أمور الصحة في سياق قانوني متناقض وغير متسق، ما بين الإلزام الدستوري، وقانون التأمين الصحي الشامل، والقانون المستحدث.

ومن زاوية تأسيسية، فإن أمر تكليف الأطباء والممرضين يخضع من الناحية القانونية لنص القانون رقم 29 لسنة 1974، والذي جاء النص في مادته الأولى على أنه: لوزير الصحة تكليف خريجي كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان والمعاهد والمدارس والمراكز التي تعد، أو تخرج أفراد هيئات التمريض والفنيين الصحيين، وغيرهم من الفئات الطبية الفنية المساعدة المتمتعين بجنسية جمهورية مصر العربية في العمل في الحكومة، أو في وحدات الإدارة المحلية أو الهيئات العامة والوحدات التابعة لها أو القطاع الخاص، وذلك لمدة سنتين، ويجوز تجديد التكليف لمدة أخرى مماثلة.

وبحسب ما أوردته المواقع الإخبارية، وبحسب حديث لنقيب الأطباء، ولنقيب طب العلاج الطبيعي، فإن ذلك القرار سوف يتم تطبيقه بداية من العام القادم 2025، وقد أفردت العديد من المواقع أبواباً لهذا الموضوع لخطورته، ولكن أهم ما جاء في ذلك، ما نشره موقع سكاي نيوز، بتاريخ الأول من أغسطس الجاري، والذي كان لها حديث مع نقيب الأطباء، والذي أوجز، بأن التعليم الخاص، وما يخرجه من أطباء جدد، وكذلك باقي الكليات المرتبطة بالصحة من صيدلة وعلاج طبيعي وطب أسنان، هي السبب في تفعيل مثل هذا الأمر.

وعلى العكس من ذلك، فقد أوضحت نقيبة التمريض في ذات الحديث السيدة/ كوثر محمود، بأن عجز التمريض يقدر حاليا بنحو 75 ألف ممرض وممرضة في محافظات الجمهورية، في حيث يتوقع، أن يتضاعف بحلول عام 2030، تزامنا مع تطبيق منظومة التأمين الصحي الشامل بالمحافظات كافة، مشددة في الوقت ذاته، على أن قرار وزارة الصحة الخاص، بأن يكون التكليف وفقا للاحتياجات الصحية، لا يعني إلغاء تكليف خريجي التمريض. كما أوضح نقيب كل شعبة طبية، ما يخص الخاضعين لنقابته، مما يتعلق بأمر هذا القرار، وإن كانت معظمها تدور في فلك، أن التكليف سوف يكون حسب الاحتياج من كل شعبة.

فهل تسعى الدولة إلى الخروج من التزامها الدستوري بضمان الحق في الصحة، أو التخلي من ذات المنطلق عن تخصيصها على أقل تقدير 3% من الناتج القومي، تخصص للإنفاق الصحي، وفتح الباب للاستثمار في القطاع الصحي بكافة جوانبه وقطاعاته، وهو الأمر الذي يؤكده قانون منح التزام المرافق العامة للاستثمار في المستشفيات وإدارتها، وهو ما يعني دخول القطاع الخاص لسوق العلاج، وبالتالي تحويل الصحة، وكل ما يرتبط بها إلى سلعة، تقف الدولة فيها موقفا، لا يعبر عن ما جاء بالنصوص الدستورية، ولا يتفق مع التزاماتها الحقوقية الدولية، فجاء ذلك القرار؛ ليؤكد تلك النوايا، وهو ما يعني أن غالبية المستشفيات العاملة في القطاع الحكومي سيتم طرحها في سوق الاستثمار، وهو الأمر الذي يعني عدم الاحتياج لتفعيل قرار التكليف على الخريجين الجدد.

ومن زاوية مقابلة، هل سيتحمل الشعب المصري، بكل معدلات الفقر، التي تتزايد يوما بعد الآخر كل هذه القرارات، وهل سيستطيع الصمود أمام تخلي الدولة عن معظم التزاماته في الجانب الصحي، والتي لم تبدأ منذ لحظة صدور القرار، ولكن ذلك بدأ بخطوات متتالية، كانت بدايتها منذ سنوات مع قرار زيادة تعريفة خدمات سيارات الإسعاف، بما يفوق طاقة المحتاجين لتلك الخدمة، وبما لا يتفق أصلا مع القانون المنظم لها.

لا أرى أي طريق من الممكن، أن يتواجد فيه نصوص القانونين معاً أو يسيرا معا في قالب واحد مع التزامات الدولة الدستورية بكفالة الحق في الصحة، ذلك بخلاف الالتزامات الدولية بموجب، ما صادقت عليه من اتفاقيات ومواثيق وعهود دولية، وقد قامت لجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عام 2000، والتي تتولى رصد الامتثال للعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، باعتماد تعليق عام بشأن الحق في الصحة. ويقضي التعليق العام، بأنّ الحق في الصحة لا ينطوي على توفير خدمات الرعاية الصحية في الوقت المناسب فحسب، بل ينطوي أيضاً على محددات الصحة الدفينة، مثل توفير المياه النقية والصالحة للشرب، والإمدادات الكافية من الأغذية والأطعمة المغذية المأمونة، والمساكن الآمنة وظروف مهنية وبيئية صحية وتوفير وسائل التثقيف الصحي والمعلومات الصحية المناسبة، بما في ذلك في مجال الصحة الجنسية والإنجابية.

كما أنني ومن الجانب المقابل أرى، أن غالبية الشعب المصري بأحواله الاقتصادية الراهنة، والتي تؤكد على زيادة عدد الفقراء، وانحسار طبقة الأغنياء، أن ذلك ينوء عن حمله المواطن المصري، ولا يقدر بأي حال من الأحوال على تحمل تبعاته، إلا أن يترك من يمرض من أسرته، أو في أفضل الأحوال البحث عن أرخص البدائل الطبية الموجودة في ذلك السوق، والذي لا يجب أن يكون كذلك، حتى في تسميته بتلك الكلمة البغيضة ” كلمة السوق “، إذ أنه من المنطقي ألا تكون كل الاحتياجات البشرية وفق آليات قانون العرض والطلب، ولا يمكن في جميع الأحوال تحميل المواطن إخفاق الحكومة في سياستها الاقتصادية، وتبعيتها المفرطة لسياسات صندوق النقد والبنك الدولي، وذلك في ظل ارتفاع كافة أسعار الخدمات المرتبطة بالأساس بموضع الحق في الصحة والحياة، مثل الكهرباء والمياه، بخلاف ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية بما يفوق قدرات المواطنين المالية.