عذرا لمحبي المهرجانات الغنائية والرياضية، فأخيرا تحول اهتمام الناس من مهرجان العلمين ومتابعة الرياضة إلى التعليم قبل الجامعي، التحول محمود بلا شك، فهو انتقال للبوصلة ناحية ما هو أكثر أهمية وإثارة لقلق الأسرة المصرية، هو تحول تجاه واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بالقيم وبالثقافة وتربية النشيء والتنشئة الاجتماعية للأجيال المتتابعة.

فجأة، وبدون سابق إنذار قام وزير التعليم الجديد في حكومة مدبولي المشكلة حديثا، الذي أقلق التفتيش وراء مؤهلاته مضجعه ومضجع، من كان سببا في اختياره، بإلقاء القفاز في وجه الجميع، بأن ألقى الكرة في ملعب أولياء الأمور، وأغلبهم ممن شارك في وسائل التواصل الاجتماعي للنيل منه. هل سعى لإرضائهم أم إغضابهم، أم أنه عكف على لفت نظرهم عن سيرته الذاتية.. ماذا فعل الوزير؟

خفض عدد المناهج الخاصة بالمرحلة الثانوية في سنواتها الثلاث. ودمج بعض المناهج في ذات المرحلة، وجعل بعض المناهج في هذه المرحلة خارج المجموع، رغم بقائها كمواد نجاح ورسوب.

في تبرير سرعة ما حدث ذكرت الوزارة، أنها اطلعت على خبرات الدول الأجنبية، وأنها أيضا قامت بحوار مجتمعي. لكن في الحقيقة، وبغض النظر عن إيجابية أو سلبية القرارات المتخذة بشأن المناهج، فلا زالت مسألة الاطلاع على الخبرات الأجنبية تحتاج إلى تدقيق، فأي خبرات تمت محاكاتها، ولماذا استبعدت خبرات وتم الاستعاضة بأخرى. أمر ثاني، لماذا اقتصر الحوار حول تلك القضية– وفق ما أعلنه الوزير- على أعضاء المجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعي؟ أليس هذا يعني أنه كان حوارًا رسميا أو مؤسسيا؟ لماذا لم يشرك الوزير الإعلام والطلبة والمدرسين في هذا الحوار عبر وسائله ومنصاته المختلفة؟ وحتى لو بفرض أن الحوار قصد منه الاستماع لآراء المتخصصين، فلماذا لم يشرك الوزير شخصيات عامة تربوية متخصصة في الشأن التعليمي وأعضاء لجنة التعليم في مجلس النواب، ولجنة التعليم في الحوار الوطني ووزراء التعليم السابقين في هذا الحوار، ومركز البحوث التربوية، ومركز إعداد المناهج؟

التعديلات السابقة، تحتاج إلى موافقة البرلمان، وهو أمر لا يقلق الوزير أو الحكومة التي اعتادت، أن تتعامل مع البرلمان كورقة مضمونة جدا، بسبب أثر نظام القائمة المطلقة المعيب عالميا على طبيعة العضوية في البرلمان. لذلك لم تعد تلك هي المشكلة، بل أن المشكلة اليوم أصبحت هي كيف يفصل المرء بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية إلى هذا الحد، فيجعل من الثانية شأنا ثانويا أو تحصيل حاصل. المعروف أن كلا الفرعين من العلوم يكمل بعضهما البعض، ويؤثر كل فرع على الآخر. بعبارة أخرى، من غير المجدي على سبيل المثال دراسة الأمراض أو التعامل هندسيا مع أرض، سيتم البناء عليها لمبنى سكني أو إنتاجي أو خدمي أو تحديد علاج أو جراحة لإنسان، أو البحث عن معدن أو غاز أو مصدر طاقة أو أثر من الآثار أو التخلص من اكتئاب أو عقد نفسية، دون دراسة تاريخ وجغرافية المكان وعادات السكان فيه وأنثروبولوجيا الموقع والأرض، وحضارة من عاشوا هنا، وأثر الحدود والعمر والنوع وعادات الطعام والشراب وتاريخ الأسر.. إلخ. ما يراد قوله، إن الشأن الاجتماعي كثير، ما يقوم بخدمة الشأن العلمي، وهذا الأخير كثير ما يقوم بخدمة الاجتماعي. كما أن الميراث المعرفي للإنسان هو المحدد لطبيعة محدثك، من حيث عظيم معرفته أو جهله بموضوع الحديث، فبدون المعرفة والمعلومات والأخبار عما يدور في الكون من حروب وصراعات ومفاوضات ومعاهدات، سيتم أكل حقوق الدول والبشر وضياع ذاكرتها. وأخيرا وليس آخرا، إن تربية النفس على دعم كل ما جبلت عليه من تسامح ومواطنة وتضحية وعمل طوعي وخيري هو السبيل لإنقاذ البشرية من الآلام بالعلاج والدواء والخلاص من مشاكل إسكانهم وإيجاد حلول لندرة مواردهم الطبيعية ونجاة الأجيال من البطالة والجوع والفاقة عبر التنمية المستدامة والتفكير العلمي والمنطقي؛ لحل كافة الأزمات وتحديد سبل الخروج منها بين عدة حلول أو ثلة من الاحتمالات البديهية والمنطقية.

كل ذلك يجعل المرء ليس في غنى عن تاريخ يدمج، أو جغرافيا تندثر عن عمد أو حضارة يجهل بها، أو حتى رياضة تبتسر أو جيولوجيا يتم طمسها، أو حتمية غرس قيم نبيلة وثقافة، طالما اتُهِم التعليم في مصر بعدم كفاية المناهج في تناولها، فإذ بنا نلغيها أو نقلص من كمها، حتى استشرى الفكر المتطرف بين البعض. ولعل من نافلة القول، إن الكثير من الدراسات قد أثبتت، أن أكثر المتطرفين- وبعضهم تحول إلى إرهابيين- هم من خريجي العلوم الطبيعية، الذين لم يكن لهم حظ في تلقى قدر وافر من الوعي عن الحضارة والقيم والتاريخ والأنثروبولوجي والفلسفة والمنطق وعلم النفس.. إلخ.

البعض يرى، أن على وزير التعليم أن يأخذ فرصته في تطبيق نظرته، وليأخذ وقته لعام أو أكثر، حتى يتبين نتيجة عمل ادعى، أن حوارا مجتمعيا جرى حوله، وقد يرى آخرون، أن البلد لا تحتمل، أن تكون مرة أخرى حقل تجارب، فتارة يلغي الصف السادس الابتدائي وتارة يعود، وتارة يدمج الصفان الثاني والثالث في المرحلة الثانوية وتارة يتم فصلهما، وتارة يأتي التابليت وتارة يختفي.

إن مشكلة التعليم في مصر أصبحت غاية في التعقيد، والمناهج هي واحدة من أبسط عقدها. هناك أزمات كثيرة متشابكة ومتداخلها، تحتاج لحلول، بعد أن أعجزت الكثيرين عن الإتيان أو ابتكار مقترحات للخلاص منها. أزمة الدروس الخصوصية ورواتب المدرسين ومشكلة السناتر وغياب الطلبة من المدراس، هي أربع قضايا غاية في التشابك والترابط، وهي الأدعى بالتفكير.

يلي تلك المشكلات خمس مشكلات أخرى، تأتي هي أيضا قبل أزمة المناهج التي عكف الوزير عليها دون غيرها، وهي الإتاحة بمعنى إيجاد مقعد لكل طالب علم في فصل غير مكتظ، ويجلس بشكل كريم، لا يختلف عن نظيره الطالب في التعليم الخاص. وكذلك الأمية القائمة بالفعل بسبب؛ ضعف المعلم والإدارة التعليمية، ما يسفر عن خريج بالكاد يدرك كتابة اسمه. ثم مشكلة التقويم، وما يتفرع عنها من عجز الوزارة حتى الآن عن مواجهة ظاهرة الغش الجماعي التي فضحت- كل عام ولأكثر من عقد- كافة المسئولين عن العملية والتعليمية، بل والحكومة بأسرها. والدمج وهو ظاهرة مرتبطة بالعامل النفسي لبعض الأطفال المصابين بالتوحد وفرط الحركة، وتشتت الانتباه، ومن ثم التخلف الدراسي. وأخيرا، التسرب ويتصل بهروب التلاميذ من المدرسة والانضمام لصفوف الأميين، دون أي ملاحقة من الدولة أو الأسرة.

على أية حال، فإن كافة تلك المشكلات العشرة ترتبط ارتباطا وثيقا بعجز الدولة عن الالتزام بالاستحقاق الدستوري بالإنفاق على التعليم والتعليم الجامعي والبحث العلمي، رغم كونها قادرة على توفير تلك المصادر المالية، لا سيما وهي تبتكر بامتياز في توفير الموارد لبناء المدن الجديدة والطرق والمحاور والمونوريل وغيرها من الأمور التي أعجزت كاهل الموازنة العامة للدولة، والتي كان التعليم هو الأولى أو الأجدى، أن يأخذ ولو نصيبا من هذا المال، بغرض إصلاح الأزمات السابقة كافة.

وإحقاقا للحق، فإنه بشأن الدروس الخصوصية، كان هناك قرارا لوزير التعليم في 12 أغسطس 2024، يتوعد فيه القائمين بالدروس الخصوصية، لكن هذا القرار لم يختلف سوى في الدرجة والشدة، عما كانت الوزارة تنادي به منذ سنوات كأمل أو هدف، ثبت أنه بعيد المنال، وهو تأكيدها -ودون أن توضح كيف سيتم تنفيذ هذا التوجه- بأنه سيتم اتخاذ إجراءات عقابية قبل المدرسين القائمين بالدروس الخصوصية، وبذل كافة الجهود الممكنة لمحاربتها؛ تمهيدًا للقضاء عليها واتخاذ كافة الإجراءات القانونية تجاه المخالفين، لا سيما المتغيبين عن المدرسة من المعلمين، وإلزامهم بالتواجد بالحصص المقررة لهم طبقا للجدول المدرسي، مع اتخاذ كافة التدابير اللازمة تجاه من يمارس المهنة، دون وجه حق، لا سيما ممن هم في إجازات، بدون مرتب أو إجازات طويلة، ويمارسون التدريس بمراكز خاصة، أو بمقراتهم الخاصة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم.

هكذا بدأ الوزير بعلاج مشكلة التعليم بالبدء بالحلقة الأقل تعقيدا وهي المناهج، حيث تداخل وتشابك فيها عبر الاستماع لوجهة نظر واحدة، فهل سيقوم في الفترة القادمة بالدخول في عرين سماسرة التعليم، ويكافح من أجل باقي المشكلات، وكذا أم المشكلات، وهي توفير إنفاق عام ومعتبر على التعليم.. هذا ما سيتضح في المستقبل القريب.