دخل المسلمون المدائن عاصمة الإمبراطورية الفارسية في العام السادس عشر من الهجرة 637م، وظلت القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية تستعصي عليهم، حتى دخلها العثمانيون 857 هجرية 1453م. كلتاهما، المدائن ثم القسطنطينية، كانتا واشنطن زمانهما، كان القصر الأبيض أو إيوان كسرى هو البيت الأبيض في زمانه، وكانت القسطنطينية- مثلما أمريكا اليوم- عصارة الحضارة المسيحية الأوروبية وخلاصتها وذروتها.
فقد الفرس إمبراطوريتهم ودخلوا الإسلام ديناً وحضارة، لكن لم يفقدوا الروح الإمبراطورية التي تضمن لهم نزعتين: نزعة استقلال عن غيرهم، ثم نزعة توسع على حساب غيرهم، لهم إسهام ضخم في إثراء العلوم والثقافة والفنون والآداب الإسلامية، لكن ليس لهم إسهام مشهود مثل باقي المسلمين من عرب وبربر وكرد وترك في أمرين: الفتوحات الإسلامية حين كان الإسلام في حقبة المبادرة والتقدم والازدهار، والدفاعات الإسلامية عندما بات الإسلام في مرمى الهجوم الصليبي، ثم المغولي، ثم الاستعمار الغربي الحديث، وذلك بعكس البربر ودورهم المشهود في حماية الإسلام في شمال إفريقيا والمغرب وإسبانيا وجنوب وغرب البحر المتوسط، وبعكس الكرد ودفاعهم عن الإسلام ضد الصليبيين والمغول، وقد ورث المماليك دور الكرد العظيم من آل زنكي وآل أيوب لعدة قرون، وبعكس كل من الأتراك السلاجقة، ثم الأتراك العثمانيين ضد بيزنطة، ثم ضد أوروبا بكاملها لعدة قرون، لم يكن الفرس- في أي حقبة- جزءا من النفير الإسلامي العام، كانوا منشغلين بموقعهم المستقل داخل بنية الحضارة الإسلامية، فهم مع العباسيين ضد الأمويين، ثم مع الطالبيين ضد العباسيين، كانوا أول شوكة في جنب العباسيين، حتى استطاع البويهيون (320 – 448 هجرية، 874 – 999م) تفريغ الخلافة العباسية من معناها قبل قرون من سقوطها على يد المغول، ولم يتردد الصفويون من مطلع القرن السادس عشر عن التحالف مع القوى الصليبية ضد العثمانيين، وضد المسلمين السنة على وجه العموم.
لكن تغيرت هذه النزعة مع ظهور الخطر الصهيوني، ثم ظهور الثورات الفلسطينية في عشرينيات، ثم ثلاثينيات القرن العشرين، ثم تقسيم فلسطين، ثم قيام الدولة الصهيونية عند منتصف القرن العشرين، حيث ظهر النقيضان: الدولة البهلوية مع الصهيونية وأمريكا والغرب، بينما الشعب الإيراني مثله مثل كل شعوب العروبة والإسلام، وقف مع الحق الفلسطيني، وعلت الروح المؤيدة لفلسطين بين طبقات الشعب وفقهاء الدين في كافة المحطات التي مرت بها القضية الفلسطينية، حتى قامت الثورة، ثم تأسست الجمهورية الإسلامية 1979 م، كدولة دينية عقائدية تحتل القضية الفلسطينية موقعاً مركزياً في منظومة مبادئها وشعاراتها ودعايتها، بل وعواطفها ومشاعرها، وهي صادقة في كل ذلك، لكن في الممارسة العملية كانت الجمهورية الإسلامية محكومة بمصالحها ومصالح إيران الداخلية والإقليمية بالدرجة الأولى والأخيرة، اكتفت بشعارات جماهيرية مثل الزوال والتدمير لإسرائيل، ومثل تحرير كامل تراب فلسطين من النهر إلى البحر، ومثل رفض مبادرات السلام والحلول التفاوضية، اكتفت بذلك، وكان هذا إنجازاً لو قورن بالعلاقات الحميمة بين إيران والدولة الصهيونية في العهد السابق على الثورة أي في عهد الدولة البهلوية.
إيران الثورية الإسلامية حارب العراق ومن ورائه العرب، ومن وراء العراق والعرب أمريكا والغرب لفترة طويلة في حرب نظامية مدمرة 1980 – 1988م، من بدأ بالعدوان هو العراق، ومن اصطف خلف العراق هم العرب، ومن اصطف خلف الجميع هي أمريكا والغرب، هذه الحرب استغرقت السنوات العشر الأولى من عمر الثورة والجمهورية الإسلامية الوليدة، ومن خلال دروسها الدموية عرفت إيران الثورية الإسلامية، أن الخطر عليها يأتي من جوارها العربي الإسلامي، ثم أمريكا والغرب، قبل أن يأتي من إسرائيل، العرب خطر قريب، إسرائيل خطر بعيد أو بالأحرى خطر على العرب بالدرجة الأولى، خطر على الإسلام يمكن التعامل معه بنصرة القضية الفلسطينية بالمستطاع من إمكانات، وهي كثيرة، نصرة تريح الضمير الشعبي الإيراني، مثلما تريح ضمير الجمهورية الإسلامية، دون تكلف حرب نظامية، تشنها إيران على إسرائيل أو تشنها إسرائيل على إيران، هذه حرب لا لزوم لها من الطرفين، كلا الطرفين يدرك، أنه ليس الخطر رقم واحد على الآخر، الخطر رقم واحد على إيران هم العرب، الخطر رقم واحد على إسرائيل هم الفلسطينيون، ليس في الاستراتيجية بعيدة المدى لإيران حرب على إسرائيل، وليس في الاستراتيجية بعيدة المدى لإسرائيل حرب على إيران، حرب إيران الكبرى كانت ضد العرب، حروب العصابات الصهيونية، ثم الدولة الصهيونية، كانت ولا تزال ضد العرب، إسرائيل تعلم أن إيران استنزفت العراق، وكان ذلك لمصلحة اسرائيل، وكان بداية لغزو الكويت، ثم تدمير العراق، ثم الغزو الأمريكي للعراق، ثم عودة العراق وسوريا لبنان في حزام النفوذ الإقليمي الإيراني، خرجت العراق من الحرب 1988، منتصرة عسكرياً، وفي المقابل خرجت إيران منهزمة عسكرياً، لكن تطورات الإقليم من مطلع التسعينيات، حتى يوم كتابة هذه السطور في صيف 2024م، حولت الهزيمة العسكرية التي منيت بها إيران في الحرب إلى نصر كاسح، فازت به إيران في الموازين الاستراتيجية في الشرق الأوسط.
منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، حيث سقط الاتحاد السوفيتي، وحيث تفكك العراق، وحيث تفككت عدة دول عربية مع ثورات الربيع العربي، وحيث تمددت إيران في العالم العربي، بما لم يحدث منذ تأسيس الدولة الصفوية في القرن السادس عشر الميلادي، وحيث اضمحلت العروبة، وباتت الدولة الصهيونية محل إجماع عربي شامل كامل، في كل ذلك استفادت قوتان: إيران وإسرائيل، لهما دون غيرهما موقع الصدارة في الشرق الأوسط، كلتاهما باتت لديهما خبرة الكسب المشترك على حساب العرب، وكلتاهما باتت تعرف مساحة وهامش حركتها، قبل أن تدوس- سهواً أو عمداً- على أصابع قدم الأخرى، باتت كل منهما تمتلك خبرة اقتسام النفوذ في الشرق الأوسط، وبالتحديد في العالم العربي سواء أدرك العرب ذلك، أو كانوا عنه غافلين، هما:- إيران وإسرائيل- اللاعبان المستقلان اللذان يملكان قرارهما في الإقليم، مع فارق الامتياز الإسرائيلي المتمثل في كم، وكيف دعم وتأييد غربي وأمريكي لا انتهاء له ولا حدود.
إسرائيل هزمت العرب- مجتمعين- مرتين، هزمتهم وهي مجرد عصابات، وهم دول عتيقة 1948 م، لكن تحت الاحتلال، ثم هزمتهم وهم دول مستقلة، لكن تحت الديكتاتوريات والطغاة 1967م، في 1948، ضمنت الوجود من العدم، في 1976 م، ضمنت البقاء، إذ كسرت أكبر رأس عربي، ثم جعلت من النصر الوحيد 1973م آخر الحروب النظامية التي تشنها الدول العربية، استوعبت جميع العرب سراً وعلناً من 1974 – 2024م، فلم يتبق غير المقاومة الفلسطينية التي تتعرض للإبادة في حضور الجميع ومرأى ومسمع من الكل عرب ومسلمين، بما فيهم إيران وتركيا ومصر إلى آخره. تركيا ومصر لديهما سلام واتفاقات وتمثيل دبلوماسي كامل مع إسرائيل، فمفهوم أن فكرة إزالة إسرائيل وتحرير كامل فلسطين غير واردة تماماً، إيران كانت كذلك، كانت أسبق الدول الإسلامية اعترافاً بإسرائيل، لكن الجمهورية الإسلامية ألغت ذلك وغيرت الوجهة تماماً نحو الحق الفلسطيني، لكن بقيت العقيدة مجرد مبدأ، ثم شعار، ثم دعاية، ثم أداة سياسية، ثم لعبة ضمن الصراع على النفوذ في الشرق الأوسط، الدعم الإيراني للقضية الفلسطينية يكسب قيمته، ليس من قوته لكن من رمزيته، وليس من شجاعته، لكن من جبن وانحطاط وغباء المواقف الرسمية المعلنة من جانب الحكومات العربية.
إيران الثورية حاربت العرب سواء في العراق أو الحرب الأهلية في اليمن، أو اصطفافاً مع النظام ضد الشعب في سوريا، مثلها- في ذلك- مثل مصر الثورية 1952- 1970 انسحبت من أمام إسرائيل مرتين: في 1956، فلم تقاتل وفضلت إلقاء خطبة حماسية في الجامع الأزهر، ثم في 1967 م، حيث لم تقاتل، وفضلت إلقاء خطاب التنحي، ثم إزالة آثار العدوان، قرار الحرب الوحيد الذي اتخذته مصر الثورية 1952- 1970، كان قرار الحرب في اليمن، الحرب مع الثوار ضد الرجعية، حرب أهلية بين الأشقاء، لم تكن حرباً، ضد إسرائيل في سيناء، عبرت البحر وركبت الجبال تحارب مع الأشقاء الثوريين ضد الأشقاء الرجعيين، وليس ضد الأعداء الذين احتلوا سيناء مرتين، قبل حرب اليمن ثم بعدها، وكل ذلك في مصر الثائرة 1952- 1970.
الدرس الذي تعلمته إيران، أن الخطر عليها يأتي من العرب، قبل أن يأتي من إسرائيل، ثم النصر على العرب أسهل من النصر على إسرائيل، ثم إرضاء الضمير الشعبي الإيراني بدعم النضال الفلسطيني، يمكن القيام به بالكثير من الوسائل ليس منها أي صدام عسكري مباشر وصريح مع إسرائيل.
هذه مقدمة لازمة لفهم الطبيعة الكسروية للنظام السياسي الإيراني.
وهو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.