لست أدري، كيف يكون لدينا مجلس نواب، به ما يقارب ثمانين عضوا من أهل القانون، وكيف يكون ضمن لجنة إعداد مشروع قانون الإجراءات الجنائية ممثل عن نقابة المحامين، وممثل عن لجنة ما يسمى الإصلاح التشريعي، ويخرج علينا مشروع قانون على هذه الهيئة التي تتناقض بشكل رئيسي مع باب الحقوق والحريات في الدستور المصري، ولا تتوافق مواده مع أغلب، ما صادقت عليه مصر من اتفاقيات حقوقية، أو اتفاقيات ومواثيق معنية بشؤون العدالة واستقلال القضاء.
وحتى يستقيم الكلام، فلا بد وأن نؤكد، على أن قانون الإجراءات الجنائية يمثل الظهير الحامي لحدود الشرعية، فيما تتخذه السلطات من إجراءات حال تنفيذها للقوانين العقابية، بداية من لحظة حدوث الجريمة، حيث لا يمكن في جميع الأحوال تصور الوصول إلى العدالة الناجزة في المواد الجنائية، والتي لا تقف إلا عند حد توقيع العقاب الملائم على المتهم جزاءً؛ بما اقترفت يداه، كذلك الأمر أو ربما أشد، فلا يمكن تصور تحقق تلك الغاية المتمثلة في معاقبة المجرمين، إلا من خلال إجراءات جنائية تصون حقوقهم، في كافة مراحل التقاضي، بداية من لحظة القبض عليهم، نهاية بتنفيذ العقوبة المقضي بها، أو القضاء بتبرئة من تم تقديمه للمحاكمة، وإذ أنه لما كان التشريع «القانون» هو السند الذي يتوقف عليه تنظيم ممارسة ورسم حدود الحقوق والحريات، فالتشريع على هذا النحو هو السند الذي يتوقف عليه تنظيم ممارسة ورسم حدود الحقوق والحريات، فإن ما تقره التشريعات من القواعد القانونية في شأن هذا الموضوع، لا يجوز أن ينال من الحقوق التي كفل الدستور أصلها، سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها، ويتعين أن يكون منصفا ومبررا، وبالتالي فإنه لا يجوز للسلطة التقديرية للمشرع، أن تتجاوز أو تنحرف عن الأهداف الدستورية في طريقة وكيفية مباشرته لاختصاصه الفريد، وقد اشترط الدستور لتحديد قواعد الإجراءات الجنائية مستندا إلى مبدأ عام، وهو الثقة في القانون لتنظيم الحريات.
ولا بد وبشكل رئيس وبصيغة قاطعة الدلالة، أن نؤكد على أن موقف الدولة فيما يتعلق بالقوانين المرتبطة بالحريات، سواء ما كان منها فردياً أو جماعياً، إذ يتعين أن تكون الدولة ضامنة لممارسة الحقوق والحريات وحامية لحدودها ومحافظة على نطاقها، وأن ما تسنه من قوانين متعلقة بأي من هذه الحريات، يجب ألا تضيق من أطر مارستها، أو تعوق التمتع بها أو بمعنى شامل، تصادرها أو تفرغها من مضمونها ومثل هذه الاعتداءات، إذ أن كل هذه التصرفات تمثل اعتداءً على تلك الحقوق أو الحريات، ومثل تلك التجاوزات، يصعب إيجاد حلول داخلية لها كونها تصدر عن السلطة نفسها أو أحد المسئولين المتنفذين فيها، وهي في الواقع قد تعبر عن فلسلفة النظام والسلطة القابضة على مقدرات الدولة. وهي تكاد أن تكون مبررة دستوريا وقانونيا من وجهة نظر السلطة الحاكمة.
وبصيغة أساسية ومؤكدة، فإن تعديل قانون الإجراءات الجنائية بشكل عام من الأمور ذات الحساسية المفرطة لتعلقه بكيفية ضمان حقوق وحريات المواطنين، وبالتالي فيجب أن يتم ذلك الأمر على نحو من الدقة والمهنية، بما يضمن أن تكون القواعد الجديدة متماشية بصورة كبيرة مع التزامات مصر الدولية والحقوقية، التي ضمنتها الاتفاقيات والمواثيق التي وقعت عليها مصر، بخلاف ما حدده الدستور المصري من قواعد وجب الالتزام بها، وتحقيقها على أرض الواقع من خلال تضمينها للقواعد القانونية، وذلك ما لم نجد له صدى، في ما يتم الترويج له بمشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد، والذي ورد به العديد من النقاط السلبية التي تصادر حقوق الأفراد، وهو الأمر الذي يتعارض مع حقيقة شرعية ومشروعية الإجراءات الجنائية، وأن الهدف الرئيسي من وجود مثل هذا التشريع على الرغم من سعيه للوصول إلى العدالة الجنائية، فيما اقترف من جرم، إلا أن ذلك حده أن تراعي الحقوق الأساسية الإجرائية للمتهمين، بما يضمن تفعيل أصل البراءة كأصل عام شامل للمحاكمات الجنائية. والأصل العام أن يكون المشرع حريصاً على صون حقوق المواطنين وحرياتهم المقررة دستورياً، وألا ينال منها متخفياً وراء ستار من ولايته المنصوص عليها في الدستور، إذا لا يجوز أن تتخذ السلطة التشريعية من اختصاصها في تنظيم الحقوق ستاراً لإخفاء نواياها في الخروج بهذا التنظيم عن طبيعة الأغراض التي يجب أن يحرص عليها، حتى وإن حاجج البعض، بأن للمشرع السلطة التقديرية في المفاضلة بين البدائل المتعددة حين تنظيم الحقوق، إلا أن ذلك محدود باختياره أفضل تلك البدائل لصون تلك الحقوق، وحمايتها على أكمل وجه، دونما إثقال بالقيود، أو ما يجاوز حد التنظيم بشكل عام.
وإذ أن بهذا المشروع العديد من المثالب التي تتعارض مع المشروعية الدستورية، ومع حقوق المتهمين في الدفاع، وحدود سماع شهودهم، وهو ما يؤدي إلى عدم توافر المحاكمات العادلة، حيث أن نص المادة 86 من مشروع القانون، جعلت الأمر مرهونا بمشيئة عضو النيابة المحقق، وكيف يتصور أن يكون دور المحامي في التحقيقات الجنائية رهنا بمشيئة المحقق، إذ أن لوكلاء النائب العام منع المحامين من التحدث بشكل عام، وذلك وفق نص المادة 72 من مشروع القانون، هذا بخلاف تقنين انعقاد المحاكمات داخل أبنية السجون والمؤسسات العقابية بحسب نص المادة 532 من المشروع المعروض. كل ذلك بخلاف ما جاء في معالجة قضية الحبس الاحتياطي، تلك التي طال فيها الحديث، وانعقد لأجلها المؤتمرات، إذ لم يرد جديد يذكر في هذا المشروع، يؤكد على حماية حقوق المواطنين.
أرى أن هذا المشروع لم يأت إلا ليؤسس لمزيد من السلطة ضد ممارسة أي حقوق أو حريات المرتبطة بحماية حقهم الرئيسي في الحرية الشخصية، تلك التي جعل الدستور المصري من العدوان عليها جريمة، لا تسقط بالتقادم. كما وأن استقلال القضاء وضمانة الوصول إليه بحسبه الجهة الوحيدة المؤسسة والحامية للعدالة، لا يتأتى إلا من خلال قوانين تراعي حدود العدالة وتستنبه لحقوق المواطنين وحرياتهم، وبصورة رئيسية وقاطعة الدلالة، يجد موقف الدولة، فيما تسنه من قوانين متعلقة بالحريات، سواء ما كان منها فردياً أو جماعياً، إذ يتعين أن تكون الدولة ضامنة لممارسة الحقوق والحريات وحامية لحدودها ومحافظة على نطاقها، وأن ما تسنه من قوانين متعلقة بأي من هذه الحريات يجب ألا تضيق من أطر مارستها، أو تعوق التمتع بها أو بمعنى شامل، تصادرها أو تفرغها من مضمونها ومثل هذه الاعتداءات، إذ أن كل هذه التصرفات تمثل اعتداءً على تلك الحقوق أو الحريات، ومثل تلك التجاوزات، يصعب إيجاد حلول داخلية لها كونها تصدر عن السلطة نفسها أو أحد المسئولين المتنفذين فيها، وهي في الواقع قد تعبر عن فلسلفة النظام والسلطة القابضة على مقدرات الدولة. وهي تكاد أن تكون مبررة دستوريا وقانونيا من وجهة نظر السلطة الحاكمة.
الأمر جد خطير، ولا يقف عند حدود فئة من فئات الشعب، كما يزعم البعض، بأن ذلك المشروع يضر بمصالح وحقوق المحامين، ولكن خطورة القانون في كونه يمس كافة طوائف وفئات الشعب، لكون الجميع عرضة في أن يكون في حالة تماس مع الإجراءات الجنائية، فلا بد وأن يتوقف البرلمان عن مناقشة ذلك المشروع لحين صياغته بطريقة، تتوافق مع ما حقوق المواطنين.