كتبت- إيمان رشدي

فارق حسن إبراهيم غمري، سجين مركز إصلاح وتأهيل برج العرب، الموظف السابق بوزارة الزراعة، الزمن في التاسع عشر من أغسطس الجاري، بعد شهرين قضاهما في المستشفى، لم يستطع الأطباء خلالهما، تدارك التدهور في حالته الصحية، حيث كان قد أصيب بالتهاب كبدي قبل خمس سنوات، وتفاقم مرضه على مدار السنوات الماضية بسبب؛ ظروف الاحتجاز وغياب الرعاية الصحية، وعدم تلقيه العلاج المناسب في التوقيتات المناسبة.

وكانت أسرته طالبت إدارة السجن مرارا بنقله للعلاج، في مستشفى خاص على حساب الأسرة، وقوبلت طلباتهم بالرفض.

غمري ليس وحده ضحية الإهمال الطبي في مراكز الاحتجاز، فقد سبقه أسامة عامر مدرس لغة عربية من مدينة طهطا بمحافظة سوهاج، والذي فارق الحياة بعد أيام من القبض عليه، عقب إصابته بأزمة صحية داخل مقر احتجازه بقوات الأمن المركزي بسوهاج.

بلغ عدد الوفيات داخل مراكز الإصلاح والتأهيل، في النصف الأول من العام الحالي 2024، 37حالة أغلبهم بسبب؛ غياب الرعاية الطبية، وخاصة ذوي الأمراض المزمنة، الذين وصل الأمر ببعضهم للإضراب عن الطعام للمطالبة بتحسين ظروف احتجازهم، بما يتناسب وأحوالهم الصحية، ومن أجل الحصول على أدويتهم.

وتنص المادة 55 من الدستور المصري على” الحق في الرعاية الصحية للسجناء، فكل من يقبض عليه، أو يحبس، أو تقيد حريته، تجب معاملته؛ بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنيًا أو معنويًا، ولا يكون حجزه، أو حبسه إلا في أماكن مخصصة لذلك لائقة إنسانيًا وصحياً”.

بينما تؤكد المادة 56 على خضوع السجون وأماكن الاحتجاز للإشراف القضائي، و”يحظر فيها كل ما ينافي كرامة الإنسان، أو يعرض صحته للخطر”.

لا تعاني مصر نقصا في التشريعات القانونية التي تكفل للمسجونين والمحتجزين حقهم في الرعاية الطبية، فقد نصت المادة 33 من قانــون تنظيــم الســجون رقم 396 لسنة 1956 وتعديلات، علـى أن يكـون فـي كل ليمـان أو سـجن غيــر مركــزي طبيــب أو أكثــر أحدهــم مقيــم، يختص بالأعمال الصحية، وفقا لمـا تحـدده اللائحة الداخليـة، ويكون للسجن المركزي طبيب، فإذا لم يعين له طبيب كلف أحد الأطباء الحكوميين أداء الأعمال المنوطة بطبيب السجن.

وجود الأطباء وحده ليس كافيا لتحقيق، ما كفله الدستور والقانون للسجناء من حقوق في مجال الرعاية الصحية، حيث تفتقر عيادات السجون للإمكانيات اللازمة، وعادة ما يلجأ الأطباء إلى إعطاء السجين مسكنات للألم بغض النظر عن الأعراض التي يشكو منها، ويترك أمر تقديم الرعاية الصحية الفورية، بما في ذلك الحالات الطبية الطارئة، إلى تقدير إدارة السجن وليس الأطباء، وعادة ما تميل الإدارة للتقليل، وربما تجاهل المشاكل الصحية للمحتجزين، وعادة ما يتأخر قرار نقلهم؛ لتلقي العلاج سواء داخل السجون أم خارجها.

شريف الروبي، المتحدث السابق باسم جماعة 6 إبريل والمحبوس على ذمة القضية رقم 1634 لسنة2022، بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية، ونشر أخبار وبيانات كاذبة، أبلغ المحكمة في واحدة من جلسات التجديد، أنه عانى من التهاب في العصب السابع وآلام شديدة في الأسنان، استمرت لأسابيع، وطلب من إدارة سجن “أبو زعبل 2″، عرضه على طبيب السجن، ولم يتلق ردا بالموافقة إلا بعد عدة أشهر، عرض بعدها على مستشفى السجن.

 وفي حين تنص اللائحة التنفيذية لقانون تنظيم السجون في المواد من 105 وحتى 116 على عدد من الضوابط المتعلقة بدور طبيب السجن والتزاماته، وصلاحياته، تكشف شهادات الأهالي وتقارير المنظمات الحقوقية عن غياب الكثير من تلك الضوابط، ومن حقوق المسجونين والمحتجزين المتعلقة بالرعاية الصحية.

بالنسبة لذوي الأمراض المزمنة كمرضى السكر والضغط والانزلاق الغضروفي، تبدو الصورة أشد قتامة، حيث لا تتوافر أدويتهم التي يحتاجونها بشكل دائم، وحتى في حال توفيرها بواسطة أسرهم، يتأخر وصولها لهم بالشهور، كما يقول مصطفى: “اسم مستعار” الذي أرسل دواء لوالده المصاب بالسرطان، والمحتجز بمركز إصلاح وتأهيل بدر، ليتفاجأ بعد شهرين بعدم وصول الدواء.

وحتى غير المصابين بأمراض مزمنة، يعانون فيما يتعلق بالأدوية التي قد يحتاجونها، حيث لا توجد نصوص في اللائحة تخص الأدوية والمستلزمات الطبية التي قد يحتاجها السجين المريض.

الأمر نفسه فيما يتعلق بسرعة عرض المسجون على الطبيب، أو توفير عربة لنقله للمستشفى عند الحاجة، وكذا سرعة إرسال التقارير الطبية إلى المديريات الطبية، للبت في قرار نقل السجين للمستشفى.

فلسفة الإصلاح ..بديلا للعقاب

إن تغيير فلسفة السجون من العقاب إلى التأهيل والإصلاح، يستلزم بالضرورة حظر كل ما يتنافى والكرامة الإنسانية، أو يعرض صحة الإنسان وسلامته للخطر، وكفالة حقه في الرعاية الصحية، لا ينتقص من استحقاقه لهذا الحق؛ كونه خاضع لعقوبة سالبة للحرية الهدف منها الحد من حالات معاودة الإجرام لا التنكيل بالمحبوسين.

وتقول الدولة إنها سعت لترسيخ هذا التغيير؛ فاستبدلت مسمى “مراكز الإصلاح والتأهيل” بالمسمى القديم الشائع “سجن أو ليمان”، وقال الرئيس السيسي عن هذا التغيير: “عاوزين نصلح الإنسان مش نعاقبه”.

وكجزء من هذا التغيير ، اشتملت مراكز الإصلاح ـ إلى جانب أماكن الاحتجازــ  على مجمعات خدمية بينها مستشفيات حديثة مجهزة بأحدث المعدات الطبية. حسب البيانات الحكومية .

ودعت وزارة الداخلية بعثات دبلوماسية ومنظمات دولية، وممثلي المجالس الحقوقية ولجان حقوق الإنسان بمجلسي النواب والشيوخ وعدد من الإعلاميين ومراسلي الوكالات الأجنبية، لتفقد مركز التأهيل والإصلاح بوادي النطرون، والذي يضم مستشفى مركزي مجهز بأحدث المعدات والأجهزة الطبية، بالإضافة لغرف عمليات تشمل كافة التخصصات وغرف للرعاية المركزة، وغرف للغزل والطوارئ وصيدلية مركزية وقسم للمعامل والتحاليل ووحدة للغسيل الكلوي.

مركزالإصلاح والتأهيل “بدر”،  يضم أيضا مركزا طبيا بسعة 175 سريرًا،  غرفتا عمليات، وواحدة لعمليات قسطرة، 18 عناية مركزة، 11 عيادة، 4 وحدات غسيل كلوي ، كما استحدث به لأول مرة مركزا لصحة المرأة.

الاتفاقيات والمواثيق الدولية

هذه المستحدثات، والحرص على توفير خدمة صحية للمسجونين، جزء من التزام الدولة بالاتفاقيات والمواثيق الدولية التي وقعت عليها، والتي نظمت حقوق المرضى المحبوسين، كما حددت التزامات الدولة تجاههم.

فشددت القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء، المعروفة بقواعد نيلسون مانديلا.  

وعلى أن توفير الرعاية الصحية للسجناء هي مسؤولية الدولة، وأن العلاقة بين مقدمي الرعاية الصحية والسجناء تحكمها نفس المعايير الأخلاقية والمهنية التي تنطبق على بقية المرضى في المجتمع، وعلاوة على ذلك، تُلزم القواعد مقدمي خدمة الرعاية الصحية للسجون بتقييم ورعاية الصحة البدنية والعقلية للسجناء، بمن فيهم ذوو الاحتياجات الخاصة.

بينما أكدت المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الموقع عليه من الدولة المصرية، على أن الدول الأطراف في هذا العهد تقر بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية، يمكن بلوغه، دون تفرقه بين حر ومحتجز.

ويشكل الإهمال الطبي نوعا من أنواع المعاملة اللا إنسانية، وقد يرقى إلى درجة التعذيب الذي يفضي بحياة من يتعرضون له للهلاك، ويسبب آلاما بدنية ونفسية شديدة، تدفع ضحاياها أحيانا للانتحار.