منذ عدة أشهر، استشرت أزمة جديدة في مصر، هي أزمة الدواء، الأزمة تلك المرة تختلف عن أزمات أخرى كثيرة، فهي ليست أزمة مبان أو إسكان أو أسمدة أو انقطاع كهرباء أو غيرها من الأزمات التي يتأثر بها كل من يعيش على أرض الكنانة بشكل غير مباشر، فالتأثير هنا مباشر وكبير، ويمس مصير الملايين من المرضى، والكثير منهم من كبار السن الذين لا يطيقون الصبر على الآلام والأوجاع.

ملف أزمة الدواء في مصر بيد جهات عديدة، تتشابك وتتباين في الدرجة، أولها السلطة التنفيذية ممثلة في رأسها رئيس الدولة عبد الفتاح السيسي، ورئيس الحكومة مصطفى مدبولي، ووزارة الصحة وهيئة الدواء المصرية وشركات الإنتاج التابعة للشركة القابضة لصناعة الدواء، يلي السلطة التنفيذية المجتمع المدني ممثلا في نقابة الصيادلة، وهناك غرفة صناعة الدواء وشركات القطاع الخاص المنتجة للأدوية. وعلى المستوى الفردي، توجد الصيدليات وملاك المخازن. لا شك أن الصيدليات ونقابة الصيادلة هي الحلقة الأضعف في الموضوع برمته.

في البيانات والإحصاءات الرئيسة المعنية بالموضوع من المهم الإشارة، إلى أن مصر تنتج 91- 94% من الدواء المتداول في الصيدليات، وأن 6 -9% فقط هو من الأدوية المستوردة. لكن لب الأزمة هو أن الأدوية المصنعة محليا تبلغ نسبة المواد الخام المستوردة فيها نحو 95%. وهناك 7 شركات أدوية كبرى تابعة للشركة القابضة للأدوية. وكان يوجد بمصر عام 2014 نحو 130 مصنعا للدواء، يمتلكها القطاع الخاص، وهي مصانع لها ترخيص من قبل الدولة، ويوجد بتلك المصانع 500 خط إنتاج. اليوم ووفقا لبيانات هيئة الدواء المصرية، يوجد 191 مصنعا بها 799 خط إنتاج. ووفقا لرئيس جمعية الحق في الدواء، يوجد بمصر 100 شركة مسجلة لدى البنك المركزي، تمتلك مصانع أدوية مصرية. أما عدد أصناف الأدوية المتداولة في الصيدليات المصرية، ويبلغ عددها نحو 80 ألف صيدلية مرخصة في ربوع مصر؛ فيبلغ 17 ألف صنف، منها 800- 1000 صنف، يتسم بالشحة والندرة، وهو بالأساس الأكثر تداولا، وهو محط الأزمة، وتلك الأدوية تخص مرضى القلب والسكري والضغط والمضادات الحيوية والبرد والسعال ومخفضات الحرارة والمكملات الغذائية والفيتامينات. أما بشأن حجم تجارة الأدوية في مصر، فقد بلغ عام 2023 نحو 140 -155مليار جنيه، يتوقع أن يرتفع إلى 200 -210 مليار جنيه عام 2024.

أسباب الأزمة عديدة على رأسها عدم توافر الدولار الذي من خلاله، يتم استيراد أمرين. الأول: مستلزمات إنتاج الأدوية، وتلك المستلزمات هي مواد خاصة بشركات ومصانع الأدوية. أما الأمر الثاني، فهو يرتبط بالأدوية المستوردة كاملة الإنتاج، وتلك الأدوية معظمها يخص الأورام والعلاج الهرموني.

واحد من أهم المشكلات التي ترتبط بالأزمة، هو عدم وجود بدائل، ترتبط بتوافر أغراض محلية، تخص المواد الخام الخاصة بخطوط الإنتاج. أما ما يفاقم الأزمة فهو قيام المستهلكين الأفراد من المرضى بتخزين الأدوية؛ خشية من المزيد من الشح والندرة، وكذلك تسجيل الأدوية بأسماء تجارية غير علمية، ما يجعل من توافر بدائل للدواء أمر صعب للغاية، ناهيك عن أنه عند توافر، ما يدعيه الصيدلي، بأنه بديل أحيانا كثيرة، ما يكون غير فعال لعدم تماثل المادة العلمية الفعالة بين الدواء الأصلي والبديل.

في حل لتلك الأزمة، توجد العديد من الطرق، بعضها يتصل بحلول عاجلة قد لا تحتاج إلى وقت، وبعضها يحتاج إلى أجل متوسط أو أكبر نسبيا، ما يفضي للخلاص من تلك الأزمة كلية.  

في الأجل القريب، لا سبيل لحل الأزمة إلا برفع أسعار الدواء بنسبة محدودة، قد تتراوح ما بين 5-25%، حتى يتم توافر الأدوية في الأسواق، وهذا الإجراء يتم ببطء من قبل الدولة التي تسعر كل الأدوية تقريبا، وذلك بسبب قيامها بالاستجابة ببطء لطلبات الشركات بتحريك الأسعار من خلال لجنة التسعير التابعة لهيئة الدواء. المهم أنه من الضروري قبل ذلك كله، أن تقوم خطوط الإنتاج باستيراد ما يلزم من خلال تقرير الحكومة اعتمادات دولارية لاستيراد المواد الخام المطلوبة لتشغيل شركات الأدوية العاملة في القطاعين العام والخاص. ولا شك أن الحكومة قادرة على توفير تلك الاعتمادات من خلال الاحتياطي الدولاري القائم للتغلب على الأزمات العاجلة. والسؤال الآن، أيوجد أفظع من تلك الأزمة حتى لا تستغل الحكومة جزءا بسيطا من الاحتياطي الدولاري؛ لمعالجة تلك الأزمة المستفحلة؟! إن قيام الحكومة بتوافر تلك الاعتمادات سيفيد إلى حد كبير الشركات القابضة السبع المصنعة للأدوية، والتي تتعرض اليوم لخسائر كبيرة على حساب شركات القطاع الخاص التي توفر الدولار بطرق ملتوية لدعم استيراد المواد الخام اللازمة للتصنيع. لقد استطاعت الحكومة خلال أزمات الدولار المتتالية توفير كم معتبر منه لاستيراد سلع استفزازية كثيرة، ألا تقدر هذا اليوم على توفير جزء يسير منه؛ لمواجهة شح الدواء من الأسواق المصرية؟!!

من المهم خلال تلك الفترة وصاعدا اعتياد الأطباء في كافة المؤسسات الطبية، بما فيها العيادات الخاصة، الاعتماد على الأسماء العلمية للأدوية بكتابة المادة الفعالة للعلاج بدلا من الاعتماد على الأسماء التجارية، الأمر الذي يجعل الصيادلة، يقومون بمنح الدواء البديل الذي يحتوي على ذات المادة الفعالة للمريض طالب العلاج، ومن ثم يتم القضاء تدريجيا على الأسماء التجارية الأحادية لكل دواء.

الأمر الآخر هو أهمية محاربة تجار الأدوية، ومعظمهم من ملاك المخازن، وتلك المخازن هي حلقة الوصل بين الشركات والصيدليات، فمن خلال الرقابة على تلك المخازن وتفتيشها بشكل دوري، يتم منع استغلال التجار للأزمة عبر تخزين أدوية معينة، وتعطيش السوق منها، بغية بيعها بأثمان فلكية.

في الأجل المتوسط، يبقى تنفيذ ما جاء به الدستور الذي مردت الحكومة على خرق معظم مواده، واحد من أبرز الحلول الداعمة لإنقاذ صناعة الدواء. فالمادة 23 من الدستور، تنص فيما يخص البحث العلمي، على أن الدولة “تخصص له نسبة من الإنفاق الحكومي لا تقل عن 1% من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيا، حتى تتفق مع المعدلات العالمية”. هنا قد تكون تلك المخصصات الآلية التي بحت أصوات الكثيرين للحصول عليها حافزا؛ لتدبير المواد الخام لصناعة الدواء من البيئة المصرية عوضا عن الاستيراد.