٢٢ مليار جنيه هي مخصصات وزارة الأوقاف من ميزانية الدولة، وأكثر من ٤ مليارات جنيه للأزهر، أموال يدفعها دافعو الضرائب من لحمهم الحي، في المقابل يخرج علينا الشيوخ بفتاوى عجيبة، مثل تصريح أحدهم بتحريم رعاية القطط في المنازل، وأقل ما يقال في ذلك، إنها كلمات تعد ردة حضارية، لا تساهم في أي تطور للمجتمع إلى الأمام، مما يجعلنا نطرح سؤالا، ما هي أجندة المؤسسات الدينية واستراتيجيتها للمساهمة في تطوير مجتمعنا؟!

لا شك، أن تراثنا الفقهي فيه خطاب راقي وحضاري ومتسامح، من المهم أن نسلط الضوء عليه، لمواجهة شيوخ الردة الحضارية الذين يتقاضون من أموالنا ليخرجوا من كتب التراث أسوأ ما فيه، وما يُسيء إلى ديننا الحنيف، ويجر أجيالا إلى مستنقع التعصب والتكفير والعنف.

بقراءة سريعة للقانون، فإن الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية، دوره أن يراجع وينقح ويطور الخطاب الديني، ويصدر أبحاثا ودراسات، تنتقد وتطور الخطاب الذي لا يناسب العصر فوفقا للقانون رقم 103 لسنة 1961 الخاص بتنظيم الأزهر الشريف، والهيئات التي يشملها، نصت المادة 15 منه، على أن “مجمع البحوث الإسلامية هو الهيئة العليا للبحوث الإسلامية، وتقوم بالدراسة في كل ما يتصل بهذه البحوث، وتعمل على تجديد الثقافة الإسلامية وتجريدها من الفضول والشوائب وآثار التعصب السياسي والمذهبي، وتجليتها في جوهرها الأصيل الخالص، وتوسيع نطاق العلم بها لكل مستوى وفي كل بيئة، وبيان الرأي فيما يجد من مشكلات مذهبية أو اجتماعية، تتعلق بالعقيدة، وحمل تبعة الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.”

وقبل الحديث عن أولويات المؤسسات الدينية كالأزهر والأوقاف في المستقبل، دعونا نتعلم من الماضي، ونتوقف أمام الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها تلك المؤسسات تاريخيا، حتى لا نكرر تجارب الماضي الأليمة.

لن يسعني الوقت، ولا المقال لذكر هذه المواقف، لكني سأنتقي درسين مهمين:

الدرس الأول: 

وهو يعكس كيف يمكن للفتوى، أن تتحول إلى أداة للقتل وتصفية المفكرين واستحلال الدماء، عندما يطلقها الشيوخ بلا مراعاة للظرف التاريخي أو الحضاري في عام 1992، نشرت جريدة النور بيانا لجبهة علماء الأزهر، يتهم فرج فودة بالردة وفي 8 يونيو من ذات العام، قام شابان باغتياله، وفي محاكمة القاتلين، أفتى الشيخ الغزالي، وهو أحد علماء الأزهر بجواز أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها، وإن كان هذا افتئاتا على حق السلطة، ولكن ليس عليه عقوبة، وهذا يعني أنه لا يجوز قتل من قتل فرج فودة.

الدرس الثاني: 

وهو لا يتعلق بموقف أو فتوى واحدة، لكنه توجه عام من المؤسسة الدينية، لم تبذل فيه مجهودا حقيقيا لتطويره، وهو موقف الأزهر من قضايا المرأة عموما، يؤسفني أن أقول، إن قضايا النساء والمواطنة من المسائل التي تتعسف فيها المؤسسات الدينية؛ لفرض سيطرتها، بما لا يحقق المصلحة في أغلب الأحوال، والشاهد على ذلك موقف الأزهر كمثال في قضية الختان تاريخيا، فقد تأخرت المؤسسة الفقهية في الأزهر عن إدراك أهمية البحث الموضوعي الذي يحقق مصلحة المجتمع لتحريم الختان، فجاءت فتاوى شيوخ الأزهر في البدء بالقول، بأنه سنة، ثم مكرمة، وأخيرا جاءت الفتوى بتحريم الختان بعد تجريمه في 2008، بل وتكرر ذلك في قضية الخلع الذي لم يطرحه رجال الدين كحل لخلاص النساء من علاقات زوجية غير راغبات فيها إلا بعد تعديلات قانون الأحوال الشخصية في عام 2000، الأمر الذي يشير إلى تعسف تلك المؤسسات الدينية وتأخرها في إدراك مصلحة المجتمع، وهو ما يختلف جملة وتفصيلا، مع ما جاءت به الأديان، وبخاصة الإسلام الذي جعل المصلحة هي مناط الأحكام، وأينما كانت كان شرع الله.

 وكذلك ما يطرحه الكثير من الشيوخ حول حق الزوج في تأديب زوجته الذي يشرعن جريمة الضرب والإيذاء للنساء، وغنى عن البيان، أن نقول إن الضرب (والتهديد به) عنف (بكل صوره وأشكاله) وإيذاء وضرر وجريمة، والعنف لا يمكن وضع ضوابط له! وتبريره جريمة وتحريض على العنف، وقبول وتبرير العنف في إطار الأسرة، يهدمها ويضر المجتمع ويزرع بذور الإرهاب والجريمة، ورأي فضيلة شيخ الأزهر الذي يكرره عن ضوابط الضرب، تأويل يخالف فعل النبي في حياته- فالنبي لم يضرب أو يؤذي زوجاته، أو أبناءه- وما يقوله شيخ الأزهر، يُسيء للدين الإسلامي، ويشوهه ويصد عن سبيل الله. 

فكرة حق الزوج في تأديب زوجته، فكرة متخلفة، تفترض أن الزوجة كائن ناقص محتاج وصاية وتأديب، وهذا يكون سببا في العنف الأسري، ويترتب عليه إفلات الأزواج من العقاب قانونا، استنادا إلى أن العنف كان لسبب من أسباب الإباحة، وهو الحق في التأديب.

يجب أن يكون وضع المرأة في الإسلام يتأسس على المساواة مع الرجل في الحقوق والواجبات والثواب والعقاب، ذلك المبدأ الذي افتتحت به وثيقة حقوق المرأة التي أصدرها الأزهر عام 2014.

على الأزهر والمؤسسة الدينية في الفترة القادمة، أن تجعل أولويتها إعادة النظر في كل، ما تطرحه بخصوص قضيتين أساسيتين: 

القضية الأولى:

تطوير الخطاب الديني، فيما يتعلق بقضايا النساء والمساواة.

فبالنظر إلى المتغيرات المجتمعية التي يمر بها العالم، وما طرأ على وضع المرأة من متغيرات اقتصادية واجتماعية، جعلتها في كثير من الحالات، هي المعيل الوحيد لأسرتها، وهو ما يجعلنا نتساءل: أليس هناك العديد من الآيات القرآنية التي تُعد قطعية الثبوت والدلالة، وعلى الرغم من ذلك تم إيقاف العمل بها ومنها الرق والجزية على المسيحيين في آية صريحة، ولم يعد يتم تطبيقها الآن؟، وأيضا مصارف الزكاة، التي منها “المؤلفة قلوبهم”، والتي قام عمر بن الخطاب بمنعها، كما أنه يوجد مبدأ فقهي يقول: “للحاكم تقييد المباح” وكذلك التعذير، وهو ما رأيناه في تعطيل آيات الحدود والرق، أو ليست الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان؟ فلماذا تختزل وتقيد عند الحديث عن اجتهادات، فيما يخص المواطنة والمساواة وحقوق النساء.

كما أن هناك تساؤلا، يطرح نفسه الآن وهو: هل أخطأ من اجتهدوا من السابقين ومنهم من كبار الصحابة في نصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة، أم أنهم اعتمدوا على فهمهم لمقاصد الشريعة وفقه الواقع وتغير الظروف المجتمعية والمعاملات بين أفراد المجتمع؟

أتمنى أن رسائل المؤسسات الدينية ومواقفها تكون دائما مختصرة وسهلة ومفهومة، ولا تحتمل أكثر من معنى، وظاهرها كباطنها، وألا تكون بالقطعة، وتصبح منهجا ومنطقا يعمم على كل القضايا، وتكون نابعة من اجتهاد حقيقي وقناعة، وليست للاستهلاك الإعلامي.

القضية الثانية: 

تنقية كتب التراث، فيما يتعلق بقضايا المواطنة.

 فهذه الكتابات لا تزال مرجعا للأفكار المتطرفة وللأسف، حتى الآن لم تقدم المؤسسة الدينية، حتى الآن نقدا حقيقيا، يؤكد أن السياق التاريخي الذي كتبت فيه لا يجوز، أن نستند إليها في إصدار الأحكام والفتاوى في العصر الحديث، وأنها تختلف عن جوهر الإسلام ومبادئه.

ولتوضيح ما أقصد سأستعرض نموذجا من هذه الكتب التي لا بد من مراجعتها فعلى سبيل المثال: 

 في كتاب “أحكام أهل الذمة لابن القيم الجوزية” وهذا واحد من أهم كتب التراث الذي يشكل وعي المشايخ ووعي رجل الشارع.

– في صـ 173 “فمن ضروب الطاعات إهانتهم- يقصد المسيحيين واليهود وغير المسلمين- في الدنيا قبل الآخرة التي هم إليها صائرون”.

– وفي صـ 202 “وأما إجارة داره لأهل الذمة- يقصد المسلم- فقال الخلال: (باب الرجل يؤاجر داره للذمي أو يبيعها منه)، ثم ذكر عن المروذي، أن أبا عبد الله سئل، عن رجل باع داره من ذمي وفيها محاريب، فاستعظم ذلك وقال: نصراني!! لا تباع.. يضرب فيها الناقوس، وينصب فيها الصلبان! وقال: لا تباع من الكافر وشدد في ذلك.

– وفي صـ 467 يقول المؤلف: “وملخص الجواب: أن كل كنيسة في مصر والقاهرة والكوفة، والبصرة وواسط وبغداد ونحوها من الأمصار التي مصرها المسلمون بأرض العنوة؛ فإنه يجب إزالتها، إما بالهدم أو غيره، بحيث لا يبقى لهم معبد في مصر مصره المسلمون بأرض العنوة، وسواء كانت تلك المعابد قديمة قبل الفتح أو محدثة؛ لأن القديم منها، يجوز أخذه، ويجب عند المفسدة .

– وفي صـ 490 “لما كان الصليب من شعائر الكفر الظاهرة، كانوا ممنوعين من إظهاره قال أحمد في رواية ابن حنبل: ولا يرفعوا صليبا، ولا يظهروا خنزيرا، ولا يرفعوا نارا، ولا يظهروا خمرا، وعلى الإمام منعهم من ذلك.

هذه هي الأولويات التي يجب على المؤسسة الدينية الرسمية- التي تتقاضى من ضرائبنا المليارات سنويا- الاجتهاد والعمل لتطوير الخطاب الديني، وطرح تصور يحترم الإنسان وحقوقه ويحقق السلام المجتمعي.