زار الرئيس السيسي أنقرة لأول مرة منذ ١٢ عاما، وعادت مياه العلاقات المصرية التركية إلى مجاريها، بعد أن شهدت توترا سياسيا غير مسبوق على مدار عقد من الزمان عقب رفض تركيا ترتيبات ما بعد ٣ يوليو، واعتبرت ما جرى في مصر انقلابا عسكريا، وراهنت على جماعة الإخوان المسلمين كبديل للنظام الجديد، وثبت مع الوقت فشل الرهان على جماعة دينية عقائدية كبديل للقنوات الشرعية، والمصالح المتبادلة التي تحكم العلاقات بين الدول.

والحقيقة، أن عودة العلاقات بين مصر وتركيا بعد سيل من التصريحات النارية المتبادلة بين البلدين له دلالات كثيرة، صحيح أن الرئيس السيسي التزم الصمت، ولم يدخل في أي مهاترات مع نظيره التركي على خلاف الأخير الذي تورط في تصريحات خارج الأعراف الدبلوماسية، وقال إنه “لن يتحدث إطلاقا” مع الرئيس المصري، واستخدم مفردات أخرى شديدة القسوة، وسار في ركب تصريحات جماعة الإخوان المسلمين، حتى تراجع في العامين الماضيين.

كما شن الإعلام المؤيد لأردوغان هجوما سياسيا عنيفا على مصر ودعم منصات الإخوان التي قامت بحملات تحريض ضد النظام المصري، قبل أن تتوقف في السنوات الأخيرة، بالمقابل فقد شن بعض الإعلاميين في مصر حملات دعائية اتسمت بالسطحية والسباب ضد تركيا، دون أن تحمل أي مضمون سياسي ذا قيمة.

يقينا توصيفات أردوغان للرئيس المصري فعل عكسها في الواقع حين تغيرت الحسابات والمصالح، وشتائم الإعلام المصري ضد تركيا، ذهبت أدراج الرياح، وبات مطلوبا أن يتعلم الجميع الدرس؟، بأن الشتائم ليس لها مكان في علاقات التحالف أو الخصومة، وعلينا أن نلاحظ، أن أوكرانيا وروسيا اللذان يحاربان بعضهما منذ أكثر من عامين، لم تحضر الشتائم في خطب الزعيمين على طريقة، من يسب أكثر هو الذي سينتصر أو يتفوق على الآخر بصرف النظر عن حدة الاتهامات التي يكلها كل طرف للآخر.

لقد دلت تلك العودة للعلاقات المصرية التركية، على أن “المصالح تتصالح”، وأن طموحات الشراكة الاقتصادية بين البلدين، تجاوزت أي تباينات سياسية، فقد وقع الرئيسان على 17 اتفاقية تعاون، وقال أردوغان: “سنعزز تعاوننا في كل المجالات”، واصفا الرئيس السيسي بـ “أخي العزيز”، وأكد الرئيسان على رغبتهما في رفع حجم التبادل التجاري إلى 15 مليار دولار سنويا خلال خمس سنوات، لأنه يبلغ حاليا أقل من 10 مليارات، والارتقاء بالتعاون في مجال الطاقة، وخصوصا الغاز الطبيعي والطاقة النووية”، وتزايد احتمالات تسليم مسيرات تركية إلى مصر.

ومعروف أن العلاقات التجارية بين مصر وتركيا لم تتأثر كثيرا طوال فترة الأزمة السياسية بين البلدين، ولكنها لم تتحسن، وهنا تبدو تلك العودة حاملة لطفرة على مستوى الشراكة الاقتصادية والاستراتيجية.

قد يكون أحد الدروس المطلوب أخذها في الاعتبار بعد العقد المتوتر في العلاقات بين البلدين هو ضرورة احترام كل دولة للنموذج السياسي الذي تطبقه الدولة الأخرى، فمن حق تركيا أن تبني نموذجها السياسي على ضوء خبرتها التاريخية وسياقها السياسي والاجتماعي، وكذلك مصر، حتى لو كان كلا النموذجين مختلفين؛ فالمطلوب هو البحث عن المصالح المشتركية وبناء شراكات اقتصادية وسياسية، تعود بالنفع على الشعبين. صحيح أن التقارب في التوجه السياسي يعزز من قوة العلاقات الاقتصادية بين الدول، إلا أن الخلاف في التوجهات السياسية لا يعني قطعها، ولا يعني الدخول في حملات تحريض متبادلة، فيجب احترام الشعوب وعدم الإساءة لها حتى في ظل الخلافات السياسية.

لقد عرفت مصر تجربة مريرة في هذا الإطار بسبب؛ إساءة بعض الإعلاميين لشعوب، اختلفت مع نظمها السياسية، مثلما جرى مع قطر وتركيا، ثم عادت العلاقات معهما إلي وضعها الطبيعي، وبقيت الإساءات في الذاكرة. 

يقينا أردوغان رجل براجماتي بامتياز وشديد العملية، ولذا فهو على استعداد أن يراجع حساباته، ويدور ١٨٠ درجة عكس اتجاهه، إذا كان ذلك في صالح شعبه وحزبه ومشروعه السياسي، والمؤكد أن تركيا دولة كبيرة ومهمة، ولكنها تعاني أيضا من أزمات اقتصادية، صحيح أخف وطأه من مصر إلا أنها موجودة.

لقد تقدمت تركيا صناعيا وتكنولوجيا، وطورت صناعتها العسكرية بشكل لافت، وبنت حضورا إقليميا ودوليا مؤثرا، كما شهدت انتخابات رئاسية ديمقراطية، كاد أن يفقد فيها أردوغان مقعد الرئاسة، وهو أمر غير معروف بعد في البلاد العربية.

بالمقابل، تشارك تركيا مصر مع كثير من الدول العربية والإسلامية هذا الرفض وعدم الانسجام مع المنظومة الدولية التي تقودها الولايات المتحدة، كما أن انحياز الأخيرة المطلق والأعمى لإسرائيل قد أضعف ثقة دول عربية وشرق أوسطية في مصداقية إيمان أمريكا حقا بقيم ومبادئ الديمقراطية في ظل هذا التواطؤ الغربي مع جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة.      

ولذا لم يكن غريبا، أن يؤكد أردوغان على “أهمية التوصل إلى وقف لإطلاق النار وضرورة إيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة”، وهو ما أكدته مصر أيضا.

 العودة المصرية التركية تعني رسائل متعددة أبرزها أولوية الشراكات الاقتصادية بين الدول وحاجة الدول الإقليمية الكبرى في المنطقة، والتي تمتلك تاريخا حضاريا مشتركا، أن تتجاوز الخلافات السياسية، أو بالأحرى تضعها في إطارها الطبيعي وتعتبر وجودها، ليس عائقا أمام فتح مساحات أخرى من التعاون سواء على المستوى الإقليمي والدولي، أو على المستوى الاقتصادي، بما يعود بالنفع على شعوب المنطقة والشعبين المصري والتركي.