كتب- سمير عثمان
«أهرام – أخبار – جمهورية».. «اقرأ الحادثة».. إذا كان سنك الآن 30 عامًا؛ فحتمًا سمعت هذه الكلمات كثيرًا في الميادين والطرقات والحواري، وعلى المقاهي وفي عربات القطار وخارج أسوار الأضرحة، وربما حتى سمعتها في الأغنية الشهيرة من فيلم “بياعة الجرايد”.
أما إذا كان أقل من ذلك، فإن الأيام لم تساعدك؛ لتكون شاهدًا على عصر ازدهار الصحافة الورقية، ولكن مستقبلًا ستكون واحدًا من مخضرمي مواقع التواصل الاجتماعي، وحينها قد تصبح شاهدًا على انتهاء عصر الصحافة الورقية التي بدأت قبل أكثر من قرنين من الزمان، ولكن تبقى القدرة على مواجهة هذا الاحتمال القوي مرهونة بقدرتها على الإبداع والابتكار، وتلبية رغبات القراء وسط ثورة تكنولوجية متصاعدة. وقبل ذلك مناخ حر مفتوح.
«كنت بوزع آلاف النسخ كل يوم في فترة الثورة “25 يناير” وما قبلها، الآن لو وزعت ألف نسخة من كل الجرائد يبقى رضا».. بهذه الكلمات وصف عم محمد بائع الجرائد الأشهر في ميدان التحرير بالقاهرة، ما حدث من تحولات في عملية بيع الصحف في مصر.
عرفت مصر الصحافة مع دخول الحملة الفرنسية، ثم ظهر جورنال الخديوي، واستمرت الصحافة في العهد العثماني، إلى أن صدرت صحيفة الوقائع المصرية، التي تعد أول صحيفة، أسست للشكل الحالي للصحافة، حيث نشر بها أول شكل للمقال والخبر وأول نعي، بحسب الدكتور خالد عزب، خبير التوثيق ومشروعات الرقمنة، والمسئول عن مشروع الأرشيف الرقمي للصحافة المصرية بنقابة الصحفيين، والذي أكد أن صحيفة الوقائع هي البداية الحقيقية للصحافة في مصر.
ومن انتكاسة في عهد الخديوي سعيد إلى ازدهار في عهد الخديو إسماعيل، وما بين كبوة وتطلع، توالت الأنظمة وتعدد الحكام واندلعت ثورات، وظلت الصحافة المصرية هي اللسان المعبر عن الأحوال، ولكن مع التقدم التكنولوجي الذي يشهده العالم اليوم، بدأت مرحلة معاناة الصحافة الورقية المصرية.
الصحافة الإلكترونية ووسائل التواصل
تقول الدكتورة بسنت عبد المحسن العقباوي، في كتابها «الصحافة الإلكترونية، وبنيتها على شبكة الإنترنت» الصادر عام 2010، إن الصحافة المصرية عرفت شبكة الإنترنت في أواخر التسعينيات، وكان أول موقع صحفي إخباري في مصر هو موقع مؤسسة دار التحرير، والذي بدأ تدشينه في 1997، وبدأ العمل به في العام التالي، وضم نسخًا إلكترونية لجريدة الجمهورية والمساء والجازيت ومصر اليوم وعقيدتي، ثم صحيفة الشعب، وصحيفة الوفد، تلتها صحيفة العالم اليوم، وفي يونيو عام 1998، أتاحت مؤسسة الأهرام جريدة الأهرام ويكلي، والسياسة الدولية، على موقعها الإلكتروني، وفي أغسطس من نفس العام أتاحت الإصدار الصباحي.
مع بداية القرن الواحد والعشرين، بدأت وسائل التواصل الاجتماعي في الانتشار، وتم تدشين عشرات المواقع الإخبارية الصحفية، ومع ثورة تكنولوجية كانت تشق طريقها آنذاك، ظلت الصحافة الورقية محافظةً على تواجدها، لكن دون استعداد لهذه الثورة أو تخطيط لمواكبتها.
تمثلت الصحافة القومية في مصر في 8 مؤسسات قومية، إلى أن أصدر المجلس الأعلى للصحافة القرار رقم 6 لسنة 2009 بدمج دار الشعب للطباعة والنشر، ودار التعاون للطباعة والنشر في الشركة القومية للتوزيع، على أن يتم نقل الإصدارات الصحفية التي تصدر عنهما إلى مؤسسات الأهرام وأخبار اليوم ودار التحرير، ووافق مجلس الشورى آنذاك على خطة الدمج، فيما أعلنت محكمة القضاء الإداري وقف تنفيذ القرار، لتقضي المحكمة الإدارية العليا بعد ذلك في عام 2012 بتأييد قرار مجلس الشورى بدمج المؤسسات، ومؤخرًا تم دمج الشركة القومية للتوزيع مع مؤسسة دار المعارف، لتستقر المؤسسات القومية على 6 مؤسسات صحفية.
وفي دراسة أجرتها مؤسسة دار التحرير عام 2011، على عينة من غير القراء للصحف القومية، أكدت أن الإحجام عن قراءة الصحف القومية جاء لعدة أسباب، منها تفضيل الصحف الخاصة، وأن الصحف القومية لا تلبي احتياجات القراء، فضلًا عن اتساع هامش الحرية في الصحف الخاصة عن القومية.
تظهر البيانات، أن أعداد الصحف الورقية عام 2010 بلغ 142 صحيفة، وانخفضت إلى 81 صحيفة بعد اندلاع ثورة يناير 2011، إلى أن وصلت 61 صحيفة عام 2021 خلال 11 عامًا، بنسبة انخفاض بلغت 57%، وذلك طبقًا لنشرة الإحصاءت الثقافية الأخيرة التي يصدرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بشكل سنوي.
تقول الدكتورة ليلى عبد المجيد، العميدة السابقة لكلية الإعلام بجامعة القاهرة، إن المؤسسات الصحفية كانت تعاني مشاكل اقتصادية منذ فترة طويلة، وهذه المشكلات تفاقمت بعد ثورة يناير 2011، مشيرًة إلى أن العديد من المؤسسات تعرضت لحملة تشكيك ممنهجة بعد الثورة، وعلى رأس هذه المؤسسات هي المؤسسات الصحفية والإعلام، من أجل خلق أزمة ثقة بينها وبين الشعب، وبالفعل حدثت هذه الأزمة، ما دفع القراء والمتابعين إلى البحث عن بدائل أخرى؛ للحصول على المعلومات، الأمر الذي أدى إلى إغلاق الكثير من الصحف.
وأكدت دكتورة ليلى لـ “مصر 360″، أنه قبل ظهور الإعلام الرقمي مع بدايات الربع الأخير في القرن العشرين، وفي بدايات القرن الواحد والعشرين، كانت هناك مشاكل خاصة بالصحافة والإعلام المملوك للدولة بشكل عام، مرتبطة بمشكلات اقتصادية، جزء منها التمويل، وذلك بعد ما حصل الإعلام الرقمي على جزء كبير من الإعلانات التي تعد أحد مصادر تمويل المؤسسات، وهذا سبب أزمة في مصادر تمويل صناعة الإعلام.
منذ عام 2010 توقفت عشرات الصحف باللغة العربية عن الصدور؛ بسبب الأزمات الاقتصادية، ومنها ما اتجه إلى تخفيض عدد الصحفيين، وعلى رأس الصحف التي طوت صفحاتها، التحرير، والمصريون التي تحولت لجريدة أسبوعية، والوادي، والبديل، وشباب مصر التي تحولت إلى شهرية بدلًا من أسبوعية، ثم توقفت تماما.
الدكتورة ليلى عبد المجيد، أكدت أيضا أن العديد من الصحف أغلقت أبوابها بسبب؛ الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، وارتفاع تكلفة الطباعة وارتفاع أسعار الورق، بالإضافة إلى أن القارئ اتجه إلى البديل الأرخص سعرًا بعد ارتفاع سعر الصحف، وهو ما جعل المواقع الإلكترونية والسوشيال ميديا وجهةً للقراء.
فيما يرى أنور الهواري، رئيس تحرير الأهرام الاقتصادي الأسبق، ورئيس تحرير المصري اليوم الأسبق، ورئيس تحرير الوفد الأسبق، أن أزمة الصحافة في مصر بدأت منذ فترة طويلة وتحديدًا من النصف الثاني من عهد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، مشيرًا إلى أن الأهرام كانت تبيع مليون نسخة من عدد الجمعة، وذلك عندما كان تعداد المصريين 60 مليون مواطن، ووقتها لم تكن الفضائيات منتشرة بهذا الشكل، ولكن بعد ظهورها لجأ إليها العديد من قراء الصحف الورقية، وكذلك لجأ إليها المعلِن، لافتًا إلى أن رجل الأعمال نجيب ساويرس كمثال، كان ينفق على الإعلانات في الصحف الورقية حوالي 20 مليون جنيهًا تقريبًا، لصالح شركة موبينيل في منتصف التسعينيات، ولكن بعد تدشين قنواته الخاصة لم يعد بحاجة إلى الإعلان في الصحف الورقية، خاصة أن القنوات الفضائية أصبحت تقدم نشرات على رأس الساعة، ويتلقاها الجمهور في وقتها.
وأضاف الهواري، أن مواقع التواصل الاجتماعي والصفحات الرسمية لجهات الدولة تنقل جميع الأخبار الرسمية، وهو ما أدى إلى قلة الاعتماد على الورقي، أما قبل ذلك كانت الصحافة الورقية هي الخيار الوحيد، والآن أصبح هناك فضائيات ومواقع إخبارية وصفحات للمشاهير وهذا كله تسبب؛ في قلة توزيع الصحف الورقية.
الصحف الحزبية
رغم أن عدد الأحزاب ارتفع من 24 حزبًا قبل ثورة يناير، إلى أكثر من 100 حزب سياسي في 2021، إلا أن الصحف الحزبية انخفضت بنسبة تتخطى 91%، ومن 23 صحيفة في 2010، كانت تصدر عن 11 حزبا سياسيا وصولًا إلى صحيفتين في 2021.
يؤكد جمال غيطاس، مؤسس مجلة لغة العصر التي تصدر عن مؤسسة الأهرام، أن اختفاء الأحزاب وعدم تواجدها الفعلي على أرض الواقع أدى إلى اختفاء الصحف التي كانت تصدرها، ولا علاقة لانتشار وسائل التواصل الاجتماعي بهذا الاختفاء.
تحليل البيانات يؤكد أن أغلب الأحزاب التي كانت تصدر صحفا لم تعد موجودة حاليًا إلا بالمسمى، وذلك عن طريق إصدار بيانات حزبية أو وجود مقرات لها، بينما حزبا الوفد والتجمع، اللذان حافظا على أحد إصدارتهما الورقية، ممثلان داخل مجلس النواب، ويتفاعلان مع جميع الأحداث على الساحة، وهو ما يتوافق مع حديث جمال غيطاس، أن غياب الأحزاب أدى إلى غياب إصدارتها الصحفية.
تراجع «أهرام المليون نسخة»
عبد الله عبد الباري، رئيس مجلس إدارة الأهرام الأسبق، كتب في مقال له نُشِر في مايو 1980: «إن صحافة مصر لم تصل فى يوم من الأيام منذ قامت وإلى اليوم، إلى هذه الأرقام، حين طبعت الصحف الثلاث، الأهرام والأخبار والجمهورية يوم الخميس 15 مايو، مليوني نسخة، ووزعت فى ذلك اليوم كل ما طبعته، دون نسخة واحدة مرتجعة، وهو أعلى رقم توزيع، حققته صحافة مصر فى تاريخها كله».
حديث رئيس مجلس إدارة الأهرام الأسبق، كان قبل 44 عامًا من اليوم، ورغم تزايد عدد السكان أكثر من النصف تقريبًا خلال هذه السنوات، إلا أن معدلات التوزيع قلت بشكل ملحوظ، عما كانت عليه في السابق.
يقول أسامة سرايا، رئيس تحرير جريدة الأهرام الأسبق، إن معدلات توزيع الأهرام كانت مرتفعة قبل ثورة يناير، بدأت في التراجع بعدها، مشيرًا إلى أن زيادة التوزيع مرة أخرى ممكن، وليس مستحيلًا، ولكنه مرهون بالعديد من المتطلبات الأخرى.
وأضاف سرايا لـ «مصر 360»، أن وجود الخبرات الصحفية في مواقع العمل، وتطوير المحتوى الصحفي؛ ليصبح معتمدًا على ما وراء الخبر، من أهم متطلبات زيادة معدلات التوزيع، موضحًا أن أزمة التوزيع تستلزم بالضرورة تطوير تلك المؤسسات، بما يتناسب مع الوضع الحالي.
من مليار إلى 250 مليون نسخة في 11 عامًا
وفقًا لتحليل البيانات، فإن ارتفاع التوزيع خلال عام 2010 يعود إلى الأحداث السياسية التي كانت تشهدها البلاد آنذاك، حيث تم إجراء انتخابات التجديد النصفي لملجس الشورى، وانتخابات مجلس الشعب التي جاءت نتائجها بفوز الحزب الوطني بأغلبية كاسحة لمقاعد البرلمان، وعلى الرغم من زيادة عدد السكان أكثر من 25 مليون مواطن، ما بين 2010 و 2021، إلا أن أعداد النسخ الموزعة انخفضت بنسبة 75% حيث وصلت عدد النسخ الموزعة إلى 252 مليون نسخة.
في عام 2020، شهدت النسخ الموزعة انخفاضًا كبيرًا، وبتحليل البيانات فإن الانخفاض كان بسبب انتشار جائحة كورونا الذي أثر بشكل كبير على خروج المواطنين للشارع وشراء الصحف الورقية، وهو ما أثر بالسلب على نسب التوزيع، ووصل عدد مستخدمي الإنترنت في بداية 2020 إلى حوالي 55 مليون مستخدم، بنسبة تصل إلى 54 % من السكان.
سقوط 28 مليون نسخة موزعة من نشرة الإحصاءات الثقافية لعام 2021
في نشرة الإحصاءات الثقافية لعام 2021، أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن عدد النسخ الموزعة محليًا وخارجيًا من الصحف العامة بلغ 224 مليون نسخة، ولكن عدد النسخ الموزعة فعليا تجاوز ذلك الرقم؛ ليصل إلى 252 مليون نسخة، بفارق حوالي 28 مليون نسخة، عما تضمنته النشرة.
النشرة كشفت، أن إجمالي النسخ الموزعة محليًا من الصحف بالإصدارات واللغات المختلفة بلغ 223 مليونا 743 ألف نسخة، فيما بلغ إجمالي النسخ الموزعة خارجيًا 28 مليونا 330 ألف نسخة، مما يعني أن إجمالي عدد النسخ الموزعة داخليًا وخارجيًا هو 252 مليون نسخة، وهو ما يوضح وجود حوالي 28 مليون نسخة موزعة، سقطت سهوًا خلال جمع البيانات النهائية بالنشرة.
جمال عبد الرحيم، سكرتير عام نقابة الصحفيين، رئيس تحرير جريدة الجمهورية الأسبق، وأحد المتحمسين لبقاء الصحف الورقية، أكد أن المحتوى هو السبب الرئيسي في تراجع نسب التوزيع، مشيرًا إلى أنه عند سؤال الصحفي الكبير الراحل محمد حسنين هيكل، عن روشتة لإنقاذ الصحافة الورقية، أكد ضرورة أن تصل الصحف إلى ما وراء الكاميرا، موضحًا أن محتوى الصحف الورقية حاليًا محتوى خبري، وهو سبب رئيس في عدم إقبال القارئ عليها، ولا يتناول الموضوعات التي تهم القراء بشكل مباشر.
وأضاف لـ “مصر 360″، أنه بالإضافة إلى أزمة عدم جودة المحتوى الصحفي، فقد تأثرت الصحافة الورقية بارتفاع أسعار الورق، وارتفاع سعر بيع الصحيفة، فضلًا عن الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها المجتمع، كل ذلك بالإضافة إلى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الإلكتروني، لافتًا إلى أن عدم وجود معلنين أثر على صناعة الإعلام.
جيل السوشيال ميديا
خالد البرماوي، خبير الإعلام الرقمي، أكد أن انتشار المواقع الإخبارية الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، وزيادة عدد المستخدمين، أثر بشكل كبير على انتشار الصحافة الورقية، موضحًا أن هذا التأثير لا يمكن قياسه، إذا ما كان تأثير سلبي أم إيجابي، وذلك بسبب أن مساحة وصول الأخبار للجمهور أصبحت أكبر، بالإضافة إلى مساحة تنويع المحتوى، وتفاعل الجمهور بشكل أكبر، وكذلك أصبح لدينا عدة قنوات اتصال مع القراء.
وأضاف البرماوي، أنه في نفس الوقت أصبح لدينا إشكالية، أن الإعلام لم يكن مستعدًا بنماذج ربحية للتعامل مع التغيرات التي حدثت من دخول الشبكات الاجتماعية، ومن الناحية التقنية فالمؤسسات الصحفية، لم تستثمر في تطوير أدواتها أو تدريب صحفييها، لأنها لم تستوعب هذه الثورة التكنولوجية.
يقول عم محمد بائع الجرائد بميدان التحرير، أن بيع الصحف قل بشكل ملحوظ، ولا يوجد طلب على الصحف الورقية، منوهًا أنه قبل الثورة وخلالها، كان يبيع آلاف النسخ يوميًا، وكان القارئ إذا تأخر في شراء الصيحفة صباحًا، لا يجدها بسبب سرعة البيع والاستهلاك، موضحًا أن حصته من أحد الصحف الخاصة في وقت من الأوقات وصلت إلى 15 ألف نسخة يوميًا، وكانت تُباع كلها، أما اليوم فحصته من نفس الصحيفة لا تتخطى 750 نسخة يوميًا، وأكثر من نصفها لا يباع، وتبقى من ضمن المرتجع اليومي مع بقية الصحف، ومشيرًا إلى أن خسائره مقارنة بالسنوات العشر الماضية وصلت إلى 85 بالمائة.
تخطت الصحف الصباحية نسبة 64% من إجمالي التوزيع السنوي للإصدارات المختلفة بأكثر من 652 مليون نسخة، فيما شكلت الصحف المسائية حوالي 12% من التوزيع داخل وخارج مصر.
جمال غيطاس، أكد أن مهنة الصحافة بشكل عام تواجه صعوبات جمة، متسائلًا هل لدينا مهنة من الأساس، قبل أن نتطرق إلى تأثير المواقع الإخبارية على الصحف الورقية؟ مشددًا على أن الأهم من الحفاظ على الصحافة الورقية، أن يكون لدينا صحافة حقيقية تحترم القارئ، وهذه هي الإشكالية التي نعاني منها، موضحًا أن الصحافة القومية تحديدًا كانت قائمة على الدخل الأساسي من التوزيع والإعلانات الحكومية خاصة، وكانت هناك حالة من تبادل المنافع بين الطرفين، وهذه التركيبة تم فكها بعد عام 2010، حيث تراجعت نسبة الإعلانات، كما أن الصحف لم تعد هي الداعم الجماهيري، لأن تفضيلات الجمهور اختلفت بعد دخول الإعلام الرقمي، وهو ما أدى إلى اختلاف مكونات الصناعة نفسها.
أظهرت البيانات اختلافًا كبيرًا بين عامي 2010 و 2021 في توزيع الصحف اليومية باللغات الأجنبية، حيث وصلت مبيعات الصحف باللغة الإنجليزية خارجيًا إلى حوالي 50 مليون نسخة في 2010 موزعة لصحيفتين، وانخفضت إلى أقل من نصف مليون نسخة موزعة لصحيفة واحدة في الإحصاء الأخير، بينما لم توفر النشرة بيانات العديد من السنوات أو التي لم تتخطى مبيعات الصحف خلالها حاجز 500 نسخة.
وبالنسبة للصحف الفرنسية، فقد شهد عام 2020 ارتفاعا غير مسبوق في أعداد النسخ الموزعة محليًا، وتصدر عن صحيفتين، وصلت إلى أكثر من 23 مليون نسخة، بينما انخفضت في العام التالي إلى 115 ألف نسخة فقط لإصدار واحد باللغة الفرنسية، وعلى النقيض تمامًا انخفض التوزيع الخارجي لصحيفة واحدة عام 2020 إلى 24 ألف نسخة، ليقفز في عام 2021، ويصل إلى أكثر من 11 مليون نسخة موزعة لصيحفة واحدة أيضًا.
حاول معد التحقيق التواصل مع رؤساء تحرير الصحف التي تصدر باللغات الأجنبية لمعرفة الفروق الشاسعة في التوزيع بين السنوات، ولم يتلقَ تعليقا حول أسباب الارتفاع أو الانخفاض الذي شهدته الإصدارات خلال السنوات المذكورة.
تحليل بيانات الصحف التي تصدر باللغات الأجنبية، يشير إلى أن التوزيع اليومي المحلي للصحيفتين اليوميتين الصادرتين باللغة الإنجليزية عام 2021 بلغ 27 نسخة فقط، فيما بلغ التوزيع الخارجي 1118 نسخة، بينما بلغ التوزيع اليومي للصحيفة اليومية باللغة الفرنسية محليًا 315 نسخة، وخارجيًا ارتفع التوزيع إلى أكثر من 31 ألف نسخة.
في دراسة بعنوان «العوامل المؤثرة على مستقبل الصحف الورقية في العصر الرقمي»، للباحثة رانيا علي، وتم تطبيقها على مجلة أسبوعية حكومية، توصلت الباحثة إلى أنه رغم المحتوى المتنوع الذي تضمنته المجلة، إلا أنها صدرت الأخبار والبيانات الرسمية في أولوياتها وصفحاتها الأولى، فضلًا عن عدم مواكبتها التطور التكنولوجي، وامتلاك موقع إلكتروني.
الدراسة أشارت إلى اختفاء التدريب والتأهيل للصحفيين، وضعف الإمكانيات التكنولوجية، كما أكدت أن نسبة 81 % من الخبراء، توقعوا أن أعداد القراء ستنخفض خلال السنوات العشر المقبلة، ومن أبرز أسباب الانخفاض المنافسة مع المواقع الإلكترونية، وأن المجلة لم تعد قادرة على إشباع احتياجات الجمهور، بالإضافة إلى ارتفاع السعر.
خالد عزب، أكد أن انخفاض التوزيع في الإصدارات المختلفة بسبب؛ قلة الاعتماد على الصحف الورقية، مشيرًا إلى أن الحاجة إلى الصحف الورقية لم تعد موجودة، وهو ما أدى إلى عزوف القارئ عنها.
وأضاف في حديثه، أن السبب الرئيسي في ذلك هو السرعة، خاصة أننا أصبحنا نقرأ الخبر في لحظة وقوعه، موضحًا أن الصحف المصرية وصلت لمرحلة الجمود، ولم تقم بمواكبة العصر وتطوير المحتوى الصحفي؛ ليناسب القراء، مشددًا على أن ضعف المحتوى الصحفي سيعجل بنهاية الصحافة الورقية، التي أكد على أنها قادمة في خلال 10 سنوات.
التوزيع اليومي للإصدارات المختلفة داخل وخارج مصر انخفض بنسبة تزيد عن 73% في 11 عامًا، وفي هذا السياق، أكد مجدي الحفناوي، مدير توزيع جريدة المصري اليوم- الخاصة– أن الصحف قبل الثورة وخلالها، كانت توزع آلاف النسخ يوميًا ، لافتًا إلى أن الوضع بدأ يتغير بعد الأزمات الاقتصادية التي مرت بها مصر.
وأضاف الحفناوي، أن المحتوى الصحفي سبب أساسي من أسباب تراجع مبيعات الصحف، متابعًا أن الصفحة الأولى إذا لم تكن تهم القارئ، فلن ينظر إلى الصحيفة، ولن يشتريها، وبعد المحتوى تأتي أزمة ارتفاع سعر الصحف، ثم ثقافة الصحفي وتدريبه، ولكن الأهم هو المحتوى الذي يعد عامل الجذب الأول.
تشير البيانات إلى انخفاض التوزيع اليومي للصحف الصباحية داخل مصر بنسبة تزيد عن 79% على مدار 11 عامًا، وبنسبة انخفاض تتخطى 80% خارج مصر.
أنور الهواري، شدد على أن الضغوطات الاقتصادية أحد أسباب تراجع التوزيع، موضحًا أنه لا يجب الحكم على انخفاض التوزيع بالمحتوى الصحفي فقط، لأن هذا المحتوى نتاج طبيعي لعدم تدريب الصحفيين، وضعف جودة التعليم الذي لا يؤهل إلى سوق العمل، وذلك مقارنة بجودة التعليم في الخارج وارتفاع مستوى توزيع الصحف في العديد من دول العالم منها اليابان والهند.
تحليل البيانات أوضح انخفاض متوسط التوزيع اليومي بحوالي 77%، ليصبح متوسط توزيع كل صحيفة من الصحف التسع الصباحية داخل مصر عام 2021 حوالي 39 ألف نسخة موزعة على أكثر من 100 مليون مواطن، بينما لم يتخط متوسط التوزيع اليومي لكل صحيفة من الصحف السبع الصباحية الموزعة خارج مصر حاجز الـ 6 آلاف نسخة فقط.
أجرى معد التحقيق استبيانًا لمعرفة اتجاهات الجمهور في كيفية الحصول على الأخبار، ومدى الاهتمام بشراء الصحف الورقية، وأظهرت نتائج الاستبيان الذي شارك فيه 100 مبحوث من سن 21 عامًا فأكبر، أن نسبة من يحصلون على الأخبار والمعلومات من الصحف الورقية لم يتعد 1.8%، بينما يفضل 43.9% الحصول على الأخبار من المواقع الإلكترونية، فيما يحصل 50.4% منهم على الأخبار من الاثنين معًا.
كما أظهر الاستبيان، أن 94.7% تغير اهتمامهم، وقل معدل شرائهم للصحف الورقية، وتمثلت أبرز أسباب تراجع الاهتمام بالصحف الورقية في الاعتماد على وسائل التواصل في الحصول على الأخبار، ثم انتشار الصحافة الإلكترونية، ثم ضعف المحتوى الصحفي، بينما يفضل أغلب المبحوثين متابعة المواقع الإخبارية الخاصة، وكذلك الصحف الورقية الخاصة ثم الحكومية.
وأظهرت النتائج، أن 47.4%، أكدوا أن المحتوى الصحفي حاليًا ضعيف، مقارنة بما كان عليه في السابق في الصحف الورقية، فيما يرى 75.4% أن انتشار وسائل التواصل أثر على معدل انتشار الصحف الورقية، كما يعتقد 49.1% من المبحوثين، أن الصحافة الإلكترونية تهدد مستقبل الصحافة الورقية، بينما رفض 21.1% ذلك، في حين أن 29.8% يقولون إنه ربما تهدد بقائها.
وفي إجابة على تساؤل حول اختفاء الصحافة الورقية خلال العقدين المقبلين، أكد 54.4% أنها لن تنتهي، ولكن التحديات المحيطة بها ستزيد، بينما يرى 36.8%، أن الصحافة الورقية ستختفي، فيما يرفض 8.8% مقولةاختفاء الصحافة، كما أكد 56.1% من المبحوثين، أن الصحافة الورقية لم تعد مؤثرة بالنسبة لهم.
وفي نفس السياق، أكد مجدي الحفناوي، أن إجمالي توزيع الصحف المصرية الصباحية حاليًا لا يتخطى 100 ألف نسخة يوميًا، لافتًا إلى أن طباعة النسخة الورقية يتكلف حوالي 17 جنيهًا، ويتم بيعها بسعر أقل من طباعتها، وهو ما يتسبب في خسائر ضخمة، لا تتحملها المؤسسات.
تقول الدكتورة لمياء محمد عبد العزيز، أستاذ الإعلام بجامعة المنصورة، في دراسة بعنوان «الصحافة الرقمية وتأثيرها على إدارة المؤسسات الصحفية واقتصادياتها»، وتم تطبيق الدراسة على عدد من الصحف الخاصة مثل، اليوم السابع والوطن والمصري اليوم، إن 88% من المبحوثين في الصحف محل الدراسة، أكدوا أن الصحافة الرقمية أثرت على معدل شراء الصحف الورقية، بالإضافة إلى أن اقتصاديات المؤسسات تأثرت بسبب؛ توقف المعلنين عن نشر إعلاناتهم في الصحف الورقية، واتجهوا لنشر الإعلانات في الإصدارات الإلكترونية.
كما توصلت الدراسة، إلى أن سهولة الوصول للصحيفة عبر الإنترنت عن الصحيفة المطبوعة، ومحاولة إرضاء القارئ الذي يفضل مطالعة الصحف على الإنترنت، فضلًا عن انخفاض عائدات توزيع الصحف الورقية، كلها أسباب أدت إلى اتجاه هذه الصحف للدخول في عصر الصحافة الرقمية، والاعتماد عليها أكثر من الصحف الورقية.
في عام 2021 أصدرت الهيئة الوطنية للصحافة قرارًا بوقف جميع الإصدارات المسائية للصحف القومية الثلاث “الأهرام المسائي – الأخبار المسائي – المساء”، ولاحقًا تم الإعلان عن دمج إصدارات «حواء والكواكب وطبيبك الخاص» التي تصدر عن مؤسسة دار الهلال في إصدار واحد، وهو حواء، كما تم دمج مجلة البيت مع مجلة نصف الدنيا التي تصدر عن مؤسسة الأهرام.
وتأتي خطة دمج الإصدارات التي تصدر عن المؤسسات الصحفية القومية، ضمن خطة الهيئة الوطنية للصحافة لتقليل خسائر هذه المؤسسات.
في دراسة بعنوان «اقتصاديات إدارة المؤسسات الصحفية ذات المنصات المتعددة، وعلاقتها بنموذج التمويل المستحدثة للصحف»، للباحث علي جمال خليفة، توصلت النتائج، إلى أن الخبراء والقيادات الصحفية أكدوا أن الصحافة في مصر تواجه تهديدات وجودية بفعل الأزمة الاقتصادية، التي تمثلت في ارتفاع سعر النسخة الورقية، ووقف بعض الإصدارات وتقليل النفقات العامة للمؤسسات.
كما أوضحت الدراسة، أن أسباب الأزمة الاقتصادية في المؤسسات القومية، كانت بسبب ضعف ثقة القراء فيها، وزيادة عدد الصحفيين والإداريين والعمال، وكثرة الإصدارات بدون مردود اقتصادي، وعدم مواكبة التطورات التكنولوجية، بالإضافة إلى عدم استغلال الأصول، فضلًا عن ضعف المحتوى وتأثيره الاقتصادي.
انخفاض الإصدارات لم يتوقف عند إصدارات المؤسسات الصحفية، بل امتد إلى الدوريات التي تصدرها المؤسسات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص، ومن 305 دوريات، كان القطاع الخاص يصدرها في 2010، انخفض العدد إلى 87 دورية في 2021، بينما انخفضت الدوريات التي تصدرها المؤسسات الحكومية من 199 في 2010 إلى 50 دورية في 2021.
الصحافة الورقية.. بقاء أم اختفاء
على الرغم من أن البيانات توضح انخفاض نسب توزيع الصحف الورقية إلى 78% خلال 11 عامًا، إلا أن الجدل لا ينتهي، فيما يخص اختفاء هذه الصحف، ويقول جمال عبد الرحيم، أن الصحافة الورقية لن تختفي، ولا يوجد وسيلة إعلامية، يمكن أن تلغي وسيلة أخرى، مستشهدًا بأن ظهور التلفزيون لم يلغ المسرح.
وأضاف، أنه لا بد من الاهتمام بالمحتوى ورغبات ومشكلات القراء، مؤكدًا أنه لا يمكن أن ننكر تأثير السوشيال ميديا والمواقع الإخبارية على الصحف الورقية، ولكن لم يكن يجب أن تؤثر بهذا الشكل الكبير، ومشددًا على ضرورة الحفاظ على الصحافة الورقية في مصر، والتي بدأت قبل 200 عام؛ لأنها تاريخ أمة.
الدكتورة ليلى عبد المجيد، أيدت رأي سكرتير عام نقابة الصحفيين، حيث أكدت أنه لا توجد وسيلة إعلامية، كانت سببًا في إلغاء وسيلة أخرى، وأن ما يحدث حاليًا من انتشار المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، يجب أن يكون تكاملا، مشددًة على ضرورة وجود تغيير في الرؤى وتطوير في الأداء والإبداع من أجل أن تواصل الصحافة الورقية مسيرتها، وتلبي احتياجات الجمهور.
بينما يرى أنور الهواري، أن هناك دولا ما زالت قائمة على الصحافة الورقية، ولكن هذه المجتمعات نهضت بالتعليم، وكذلك المجتمعات الغربية تكوينهم المهني والمحتوى الذي يقدمونه مختلف عن المصريين، موضحًا أن ضعف المحتوى الصحفي لا يمكن أن نلوم فيه على الصحفيين، ولكن هناك العديد من الأسباب منها، ضعف الرواتب، والتدريبات التي أدت إلى ذلك.
كذلك رفض أسامة سرايا، فكرة إلغاء وسيلة لغيرها، مؤكدًا أن الصحف الورقية مستمرة، ولكن يجب أن تواكب التطور الذي يحدث، كما يجب أن يتم تدريب الصحفيين، والاهتمام بالمحتوى الجيد، الذي يعبر عن نبض الشارع.
وحول مستقبل الصحافة الورقية، أكد الهواري، أنه لم يعد يقرأ صحفًا ورقية؛ لأنه لم يعد هناك دافع للقراءة، مع وجود مواقع التواصل والمواقع الإخبارية الإلكترونية، مؤكدًا أنه لا يحب أن يستيقظ يومًا، ويجد الصحافة الورقية مختفية، وتسائل: لا أعلم كيف يمكن استمرارها، إذا لم يكن هناك مبيعات أو إعلانات ولا أعلم ما هو مستقبلها؟، ومشددًا على أن الأهم من استمرار الصحافة الورقية، أن يكون لدينا صحافة حقيقية وصحفي قادر على كتابة خبر صحفي حقيقي.
يتفق جمال غيطاس في الرأي مع الهواري، حيث أكد غيطاس، أن الأهم من أن يكون هناك صحافة ورقية، أن يكون هناك مهنة صحافة قوية، قادرة على القيام بمهامها، وأن يكون هناك صحفي ملما بأدواته، وقادرا على الابتكار وخلق محتوى صحفي جذاب.
أما خالد البرماوي، فيرى أن الصحافة الورقية انتهت بالفعل، وأرقام التوزيع هي التي تؤكد ذلك، وتنفي أي فكرة عن استمرارها، مشيرًا إلى أن أي صحافة تقوم على الصحافة الخبرية؛ فهي مؤسسة ترمي نقودها على الأرض.
فيما يؤكد خالد عزب، أن الصحف الورقية انتهت أيضًا، ولكن المسألة مسألة وقت، حتى تتلاشى الصحف تمامًا، موضحًا أن السبب هو عصر السرعة الذي نعيشه، وأن الخبر أصبح لحظيًا، ولا يمكن أن تستمر الصحف الورقية، مهما طورت من محتواها وسط عالم متغير ومعتمد كليًا على الإنترنت.