ملف الحبس الاحتياطي واحد من أبرز الملفات الشائكة في مجال الحقوق والحريات العامة في مصر، وبالتشابك معه تنقضي الكثير والكثير من المشكلات التي تقف عثرة أمام حالة حق الرأي والتعبير.
هناك مشكلات كثيرة، يعاني منها ملف الحريات في مصر، وهو الملف الذي حملته إلى حين أحداث 25 يناير2011. لكن ما لبثت أن خاضت الدولة والمجتمع في العديد من مشكلات عدم الاستقرار السياسي نتيجة؛ حالة اللغط والفوضى التي نتجت عن عدم وجود قيادة موحدة لحركة يناير، وفي نفس الوقت تعاطي الإخوان بالكثير من التعالي والاستخفاف في آن مع عديد القضايا السياسية والدستورية بعد يناير، رغبة في الاستحواذ والتمكين، واستبعاد وإقصاء الغير، وكل ذلك كان من أهم أسباب حركة 30 يونيو 2013، التي قضت على عديد السلبيات، ولكنها أيضا عصفت بالعديد من الإيجابيات، التي كان من شأنها تمكين القوى غير المدنية الموازية من الهيمنة على حكم البلاد بعدئذ.
أبرز الملفات التي حملت التجاوز الكبير في حق الحريات العامة، هو ملف الحبس الاحتياطي، والذي بقي لسنوات مع كثرة الشكاوى من قبل المجتمع الحقوقي المصري والدولي شوكة في حلق نظام 30 يونيو، بلا أي منازع مقارنة بغيره من القضايا.
لم يكن غريبا أن يفتح الحوار الوطني هذا الملف، ويناقشه باستفاضة في 23 يوليو الماضي، بعد عامين ونيف من بدء الإعلان عن الحوار الوطني السياسي بين القوى السياسية. ظل الملف ينغص حياة آلاف المصريين، ممن يقبعون في الاحتجاز لمدد، تجاوزها الدستور والقانون وبتدوير وتسييس غريب لهؤلاء، لدرجة أوحت، بأن هناك تعمدا في التنكيل بهم، ما جعل هناك تجاوزا واضحا في معيار العدالة وممارسات، تتم دون أدنى رقابة، ولعل الغريب أن معظم الموقوفين رهن الحبس الاحتياطي في قضايا الرأي هم من القوى المدنية التي ساندت حركة 30 يونيو. كل ما فعلته تلك القوى، أن بعضها وقف ليتظاهر؛ دفاعا عن مصرية تيران وصنافير، وأغلبها وضع على مواقع التواصل الاجتماعي تعليقات، ترتبط بمحاربة الغلاء، خاصة في الغذاء والطاقة، ونقد الفساد، وبيع أصول الدولة للأجانب، وهيمنة صندوق النقد الدولي على شروط الإصلاح الاقتصادي في البلاد، وعدم العدالة في توزيع الثروات، والغبن البين في الحقوق الاجتماعية المختلفة، خاصة في الشأنين الصحي والتعليمي، وشح المياه بسبب؛ عجز التصرف أمام القزم الإثيوبي الذي جر البلاد لمفاوضات لا تنتهي، وعدم كفاية الأسمدة، والإنفاق والإسراف المفضي للاستدانة بلا حدود بسبب؛ العلمين الجديدة والعاصمة الإدارية والمونوريل..إلخ. ولعل الغريب في الأمر أن صيغة توقيف الناس، رغم أن معظمهم من المدنيين الذين دافعوا بحرارة عن حركة 30 يونيو، ولا ينتمون بأي صلة لجماعة الإخوان أو أي تيارات دينية، كانت عبر اتهام أنهم “ينتمون إلى جماعة إرهابية غرضها قلب نظام الحكم وإحداث قلاقل”، رغم كونهم مواطنين عاديين، يعانون كما يعاني سجانهم.
ما يحدث الآن، هو حلحلة مؤكدة لملف الحبس الاحتياطي، وحسنا فعلت النيابة العامة والنائب العام الذي وجه بمراجعة ملفات المحبوسين احتياطيا؛ تمهيدا للإفراج عن المزيد منهم عقب الإفراج بالفعل عن 151 من هؤلاء منذ ثلاثة أيام. ليتذرع الناس بالحكمة التقليدية، “إن تأتي متأخرا أفضل من ألا تأتي”.
ما من شك، أن احتكار بعض مؤسسات الدولة، خاصة العدلية منها، صكوك الوطنية والهيمنة على تقييم معتقدات الناس، والتدخل في نواياها وسبر أغوارهم، وفرزهم عشوائيا، هو واحد من أبرز الأمور التي تولد حالة من الغضب وعدم الاستقرار، فهي كلها أمور مُفرخة للاكتئاب واليأس وأحيانا الثأر، ومن ثم فهي تؤدي–على أقل تقدير- كما يعتبر علماء الاجتماع السياسي لتنشئة مواطن سلبي، أنمالي، محبط، انعزالي، غير مكترث، وغير متحمس للذود عن الوطن في حالة المحن والخطب والنواكب.
أفلح النائب العام كثيرا بقراره الأخير بشأن المحبوسين احتياطيا والمتناسين في غيابات السجون، ومن قبل تعاطى الرئيس السيسي إيجابيا بالإفراج عن محكوم عليهم في قضايا رأي. لكن هذا الملف لن يكتمل غلقه إلا بتعديل التشريعات المعنية، وعلى رأسها قانون الإجراءات الجنائية، وحسن النوايا والتصرف في تفسير مواده، ومنح التعويضات الملائمة، والتي مهما بلغت لن تكفي -كبت حريات هؤلاء والتعسف في استخدام السلطة- عن جبر الضرر الذي لحق بهم، ونال من أعمارهم مقابل غيرهم المجرم والآثم والفاسد طليق دون حسيب. لن يكتمل غلق هذا الملف إلا بما جاءت به مخرجات الحوار الوطني بإعادة دمج هؤلاء المظلومين الذين خرجوا إلى النور، وقد شردت أسرهم ولطم بعضهم ومرض وهرم والديه؛ شوقا وحرقا على فراقه. لن يكتمل غلق ملف الحبس الاحتياطي، إلا باستعادة الحقوق المالية للمفرج عنهم في البنوك وحقهم في السفر والعودة إلى العمل، بدون أية مؤاخذة. كل تلك الأمور يتوجب أن تتفاعل معها السلطة؛ فتأمر نوابها في البرلمان، خاصة نواب نظام الأغلبية المطلقة الشائه، الذين يأتمرون بإشارة واحدة منها طاعة، وجثوا ورضخوا، للموافقة على كافة مخرجات الحوار الوطني، وحتى لا تكون أي قرارات تنفيذية أو إدارية صادرة للتخفيف عن معاناة الناس مجرد عطف أو منه أو شفقة. فالناس خلقوا أحرار، ويتوجب أن يعيشوا بكرامة ودون امتهان، مهما كانت معتقداتهم وأفكارهم وآرائهم، ما داموا لا يستخدمون أو يدعون إلى عنف يعصف باستقرار الدولة والمجتمع.
لو انتهى ملف الحبس الاحتياطي، لا يعتقد أن المجال العام يكون قد فتح على مصراعيه، لكنه لا شك ستكون حلت أهم قضاياه. إذ أن هناك ملفات أخرى بعضها على مائدة الحوار الوطني، وعلى رأس تلك الملفات التعذيب في السجون، وحقوق السجناء، وحرية عمل المواقع الإلكترونية، وكذلك الحريات الأكاديمية المهدرة إلى أبعد الحدود، وحقوق الانتخاب والترشيح التي تم النيل منها بعد 30 يونيو، ودعم الأحزاب السياسية التي أصبح كلها في إطار الخوف والفزع مجرد أحزاب موالاة، وحق التظاهر الذي بقى حبرا على ورق وخاضعا فقط لرغبة السلطة، عندما تدعو الناس وحدها للتظاهر فيستجيبوا، وحق المجتمع المدني في أن يكون سندا للدولة في التنمية دون قيود، وكذلك حرية المجتمع الأهلي في الحركة والتعاطي مع مشكلات المجتمع.
ما من شك، أن نهاية الخوف والقلق هو أهم ما يفضي لمجتمع مستقر وآمن من الشرور والنواكب وعدم الاستقرار. فالأمن والأمان هو أن يعيش المجتمع في حالة من الاستقرار. هنا لا يمكن وضع أي سند أو فهم لمقولة زائفة، تسمى “حتمية التوازن بين الأمن القومي وحريات الناس”، لأن الأمرين غير منفصلين أصلا، بل هم متطابقين. ففي الحريات وحفظ كرامة الناس أكبر السبل والطرائق لتحقيق الأمن والأمان وذود الجميع دفاعا عن السلطة والقوة في مواجهة أعداء الوطن. في مناحي الحريات السياسية أكبر تبرير لأمر تابع مهم وهو صبر الناس على المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع. بعبارة أخرى، المشكلات الاقتصادية الاجتماعية لا ينقصها تضييق على الناس لكي تكتمل حياتهم مشكلات سياسية فوق طاقة الجميع. ما من شك، أن السلطة التنفيذية والمؤسسات العدلية في الدولة أصبحت تتعاطى بإيجابية مع تلك الأمور، وحسبنا الاهتداء للعمل القويم وحسن النوايا في تفعيل الدستور والقانون اليوم وفي المستقبل القريب.