الاستدانة قرار واختيار.. كيف شخّص المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي أوجاع الاقتصاد في 10 سنوات؟

هل امتلكت مصر بدائل قبل اللجوء لصندوق النقد؟.. وهل استفادت من شهادة الثقة التي تحدثت عنها وزارة المالية في جذب الاستثمار؟.. وهل يساعد الصندوق على تحقيق نمو اقتصادي؟ وهل يحل أصلاً مشكلات الاقتصاد أم يفاقمها؟.. ظلت تلك الأسئلة مثيرة للجدل في الشارع المصري، منذ بدء برامج التعاون مع الصندوق التي تستمر لقرابة العقد.

ظلت وزارة المالية منذ مطلع التعاون مع الصندوق في 2016، تعتبره الحل الوحيد لمشكلات الاقتصاد المصري، والتوجه السليم للحصول على شهادة ثقة، تجذب الاستثمارات الأجنبية لمصر، والطريق القويم لمواجهة اختلالات ميزان المدفوعات، لكن الدكتور محمود محيي الدين، وزير الاستثمار السابق والمدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، كان له رأي آخر.

ظهر محيي الدين في لقاءين خلال أسبوع واحد؛ للتحدث في التجربة الاقتصادية المصرية بتقييم محرج للمجموعة الاقتصادية المصرية من بنك مركزي ووزارة مالية وغيرها، مع العودة في كل مرة لمناهج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التي درس بها؛ للتأكيد على أن ما يقوله في بعض الأحيان بديهي وموجود في كتب الكلية منذ الثمانينيات.

في لقاء حواري مع مركز حلول للسياسات البديلة التابع للجامعة الأمريكية، قال المدير التنفيذي للصندوق، إن اللجوء للمؤسسات المالية الدولية، يجب أن يكون لضرورة قصوى وفهم واعتبار، فالاستدانة ليست قدرًا، وإنما اختيار مرتبط بنموذج التنمية والنمو المُتبع.

وعاود محيي الدين، التأكيد على تلك النقطة أكثر من مرة في اللقاء الذي تجاوز الساعة بقوله، إن الاستدانة يجب أن تكون في أضيق الحدود، لو كان هذا الاختيار المجتمعي والاختيار السياسي المعمول به.

يضيف محيي الدين، أن مصر تحتاج لـ “مالية عامة” (يقصد وزارة المالية) تعمل على تخفيض الدين العام، وتضبط العجز، وتزيد الإيرادات، فعندنا مشكلة في أولويات الإنفاق وضبط عموم الإنفاق، ويجب أيضًا إدخال النفقات كلها في الموازنة”.

وجود معاملات خارج الموازنة معيب

تطرق محيي الدين، لبعض المشروعات القومية بصورة مبطنة، والتي دار الحديث أن تمويلها يتم من خارج الموازنة العامة للدولة، قائلا إنه لا يجب أن يكون لدينا مجال للمفاخرة بوجود معاملات خارج الموازنة العامة للدولة.. وليس من المفاخرة أيضًا، أن عددا كبيار جدًا من المشروعات المهمة والحيوية والاستثمارات التي أضيفت لهذا المجتمع، لا يتم رصدها بكفاءة أو كفاية في الناتج المحلي الإجمالي”.

تابع محيي الدين: “القول إن تلك المشروعات غير ممولة من الموازنة هو رصد محاسبي فقط، لكن الأثر الاقتصادي على الموازنة في النهاية سيكون موجودًا فيها، يؤثر على الموازنة؛ لأنها ستتحمل نقص الإيرادات”.

يشدد على وحدة الموازنة، ويستعين بكتاب صدر عام 1983 لرفعت المحجوب أستاذ الاقتصاد السياسي والمالية العامة، الذي اعتبر وحدة الموازنة من مقومات الدولة، فالمالية العامة تحتاج لزيادة الإيرادات الضريبية التي لا تزيد عن 14% عبر كفاءة التحصيل، وليس فرض ضرائب جديدة، وإشعار المواطن باستفادته من الإيرادات الضريبية في صورة خدمات كمواصلات عامة آدمية، بدون مهانة أو تكلفة عالية.

الديون.. درجات من الشر

يقول محيي الدين، إن الاستدانة درجات أقلها خطورة هو الاقتراض المحلي (الاقتراض من المؤسسات المحلية) فالسداد بالجنيه، ولا توجد مخاطر لسعر الصرف ومشكلتها في تأثيرها على التضخم على المدى الطويل.

 في المقابل، فإن أسوأ أنواع الاستدانة هو الاقتراض الخارجي، خاصة في ظل الجدل حول الحدود الآمنة فالبعض، يردد مؤشرات دون أدنى دراسة أو إدراك لمعناها كنسبة 60% من الناتج المحلي، فتلك النسبة مرتبطة بدول متقدمة قادرة على السداد.. وهذه النسبة في الأساس، لم يتم تحديد هل للدين المحلي أم للدين الخارجي أم الاثنين معا.

يضيف المسئول بصندوق النقد، إن المؤشر الأهم ليست نسبة الدين العام، ولكن القدرة على خدمة الدين بالنسبة للموارد، مثل الشخص الذي يتوجه للحصول على قرض فرغم إمكانية حصوله على مبلغ ضخم، لكنه يقترض المبلغ الذي يستطيع الوفاء بالتزاماته.

في الحالة المصرية، يقول إن الأولى من نسبة الدين إلى الناتج المحلي هو نسبة خدمة الدين إلى مصادر الإيراد التي يتم تحصيلها من التصدير، لو كان الاقتراض خارجي أو نسبة الدين للإيرادات العامة من الخارج والداخل.

هل يضمن الصندوق النجاح؟

يشكك محمود محيي الدين، كثيرًا في تحقيق البرنامج الآمال التي يتوقعها صانع القرار الاقتصادي بمصر، قائلاً: “حتى لو حقق نجاحا منقطع النظير، فلن يقوم في حد ذاته بمنح الاقتصاد زيادة في النمو أو تصاعد في التنمية أو قفزات بمعدل الاستثمار.. فالصندوق دوره إنقاذ مريض يدخل غرفة الإنعاش.. أي إنقاذ الاقتصاد، وجعله يقف على قدميه.

في 2026، تمر عشر سنوات على التعامل مع صندوق النقد، ما يتطلب ــ وفقا لـمحيي الدين، وضع قواعد للتخارج من الصندوق وعدم الانتظار لاقتراب الموعد”.

لشرح ضرورة تعامل مصر مع الصندوق من الأصل، يعود محيي الدين، إلى طرق تعامل الدول مع تلك المؤسسة المالية التي يشدد، على أن دورها إنقاذ المريض فقط، على أن يتولى بعدها السير وتنظيم حياته، فالخيار الأول هو، تنظيم السياسات الاقتصادية الداخلية لدولة، ليس عندها مشكلة ولها ميزانيتها التي تمولها، أو قادرة على جذب الاستثمارات الأجنبية، وفي هذه الحالة يكون التعاون قاصرًا فقط على شروط العضوية والمراجعات الفنية.

الحالة الثانية تكون لدولة تعرضت إلى أزمة، لكنها لم تصل لدرجة المشكلة أو الكارثة فتضع برنامجا للنمو الاقتصادي مع الاسترشاد بالمعايير الدولية في الانضباط المالي، ومصر كانت حالة شبيهة بذلك في 2003/ 2008، حينما وضعت برنامج الإصلاح لضبط مشكلة التضخم وتراجع النمو وارتفاع البطالة.

الحالة الثالثة، دول تفتقر للموارد البشرية والمالية وتتعامل مع الصندوق ببرنامج نخبوي خاص مثل تشيلي وكولومبيا بتسهيل ائتماني مرن بشروط، تضع الدولة أولوياتها؛ لأنها ليس عندها كارثة تمويل في ميزان المدفوعات.

ما حالة مصر وفق برامج الصندوق؟

البديل الرابع هو برنامج الدعم والاستقرار المالي والمساندة، وهو ما تعاملت به مصر، حينما تعاونت مع الصندوق في 2016، وكان يفترض انتهاؤه خلال 3 سنوات فقط، خاصة أن الصندوق يقول، إنه بنهاية البرنامج في 2026 سيكون الاقتصاد أفضل نموا وأقل في التضخم وأقل في المديونية الخارجية، وهي بداية طيبة يمكن البناء عليها .

يطالب محيي الدين، بكشف حساب للإجابة على تساؤلات: هل كان من الواجب الدخول للصندوق في 2016؟ وهل تستطيع مصر تنفيذ برنامج للإصلاح الاقتصادي العام والكامل دون الاحتياج لبرنامج للصندوق؟.

للإجابة على التساؤلات يعود محيي الدين، لفترة توليه الوزارة الخاصة بالاستثمار، ففترة 1997 ـ 2004، كانت سبع سنوات عجاف بمعدل نمو قليل ومديونية عالية وتضخم، وحينها أدركت الحكومة ضرورة البحث عن حلول، خاصة المجموعة الاقتصادية التي كانت تضم عثمان محمد عثمان، وبطرس غالي، وفاروق العقدة، ورشيد محمد رشيد، وفايزة أبو النجا، ومحمود محيي الدين، وحينها تم الاتفاق على أولويات برنامج للإصلاح، ووقتها أيضًا كانت خدمة الدين هي الأدنى على الإطلاق، وتم تصفير مديونيات شركات القطاع العالم.

خطوات للخلف.. هل كان الصندوق ضروريًا؟

في 2016، صانع القرار كان عليه الاختيار، وكان من الوارد تطبيق نموذج 2003، لكن لم تكن هناك مؤسسات اقتصادية قوية.. وبالتالي الاستدانة قرار واختيار، وليست أمرًا قدريًا، والاستدانة يجب أن تكون في أضيق الحدود ولمشروعات لها عائد، بحسب قوله.

يقول محيي الدين، إن صندوق النقد الدولي، مختلف عن البنك الدولي؛ فالأخير يمول مشروعات تنموية، وقد يعرض هو تمويلها، لكن الصندوق مثل غرفة الطوارئ بالمستشفى لا يأتي إلا إذا لجأت إليه، وهو ليس من أولوياته خدمة التنمية، لكن من المفترض ألا يعطلها .

وفقًا للمدير التنفيذي بصندوق النقد الدولي، فإن دور تلك المؤسسة التمويلية في قرض “إنعاشي” لإصلاح الاختلالات المؤقتة في ميزانية الدولة أو ميزان المدفوعات، أو في أسواق النقد الأجنبي، أي أزمة منها، ستجد الصندوق حاضرًا.

هاجس سعر الصرف

يضيف، أن سعر الصرف هاجس ورد في الكتب الأكاديمية منذ الثمانينيات، فسعر الصرف وتقلباته، هي عرض لمرض والمرض في الأساس الاقتصادي؛ فالنمو يجب أن يكون مختلفًا.. مشكلتنا في مصر في التصدير وليس في الاستيراد، وقلة الإيرادات وليس زيادة المصروفات.. وزيادة معدل النمو بشكل مطرد وليس متقطع. (يقصد النمو المتذبذب الصعود لـ 5 % والعودة لـ2% بعدها وهكذا).

يضيف محيي الدين: “الاقتصاد ليس صفقات وليس بالفرص فقط.. صحيح أنها أمر جيد.. لكننا نحتاج سياسة منضبطة ومؤسسات عالية التنسيق.. كما لا يجب تحميل المشكلات الدولية السبب في كل المشكلات.. فكان من الواضح أن التيسير النقدي (خفض الفائدة) يسير للنهاية، وكان لا يجب الإبطاء حينها في اتخاذ القرار أو بمعنى آخر، الحكمة في اتخاذ القرار.

تحتاج الحكمة إلى معرفة، والمعرفة إلى معلومات، والمعلومات إلى بيانات مُحدثة، وهو أمر يعود به محيي الدين، لقانون تداول المعلومات الذي شارك في إعداده بالتعاون مع البنك الدولي وخبراء محليين وعالميين، وتعمل على تحديث البيانات وتحديد السري والمعلن منها للوصول لهرم المعرفة، وبالتالي الحكمة في اتخاذ القرار والمفاضلة بين البدائل والحرفية وعدم الرعونة في اتخاذ القرار.

عن أهمية المعلومات يقول محيي الدين، إنه في بعض الأحيان تكون لدى الدولة مشكلة يمكن حلها، لكن الإبطاء في الحل يؤدي إلى أزمات، وفي تلك الحالة لا يكون أمام الدول سوى الاستدانة من صندوق النقد الدولي.

عن بيع الأصول، يقول محمود محيي الدين في لقاء مع عمرو أديب، إن جميع المؤسسات العامة مهما كانت جهة ملكيتها يجب إخضاعها لنظام المنافسة بلا استثناء، خاصة أن تلك المؤسسات العامة لديها القدرة على المنافسة، فـ”تسوية الملعب” أساسي من أجل تحسين مناخ الاستثمار .


يضيف: “لا يجب أن يكون هناك أية امتيازات للمؤسسات العامة بأي وسيلة، لا يجب أن تكون هناك أسعار تفضيلية للأراضي، ولا ائتمان بسعر فائدة أقل، ولا عمالة أرخص، بجانب دفع الجميع الضرائب”.

ما الحل؟

يرى محيي الدين، الذي دائمًا ما يتردد اسمه في التعديلات الوزارية الأخيرة كرئيس وزارة، أن الحل في أربع نقاط أساسية: سياسات مالية منضبطة، والسيطرة على الدين، وإطار عام للسياسة النقدية، ووضع نظام أو إطار لاستهداف التضخم.

يقول إن تخفيض التضخم هو الأولوية والمسئولية الأولى للبنك المركزي بالتعاون مع الحكومة، ويجب أن يجند البنك كل أدواته من أجل؛ تحقيق ذلك الهدف، حتى يمكن أن يتم محاسبة البنك المركزي كل فترة سواء ربع سنة أو سنة، شعبًيا، وفي إطار السوق حول المستهدف والنتيجة.

ويقترح محمود محيي الدين المدير التنفيذي لصندوق النقد، دمج جهاز حماية المنافسة مع جهاز حماية المستهلك في هيئة واحدة، لها جناحان، تكون تبعيتها لرئاسة الجمهورية، حتى يكون لها القدرة على اتخاذ القرار، وحتى تكون المؤشرات الاقتصادية مثل هبوط التضخم والنمو معبرة، مضيفا: “بالنسبة للأسعار لا أرى تراجعها في بلدي كفر شكر.. لا بد أن تُسمِع (تؤثر) المؤشرات في الأسواق.