رئيس الجمهورية في إيران، ليس هو الرئيس الفعلي للدولة، هو مجرد رئيس للسلطة التنفيذية مثله مثل، رئيس السلطة التشريعية ورئيس السلطة القضائية، هو رئيس للوزراء ليس أكثر من ذلك، وانتخاب رئيس الجمهورية من الشعب لا يغير من هذه الحقيقة شيئاً. الرئيس الفعلي للبلاد هو المرشد الاعلى، والمرشد الأعلى لا يأتي بالانتخاب من الشعب، لكن يختاره مجلس الخبراء، ومجلس الخبراء مكون من فقهاء، يشترط فيهم الإيمان بالثورة، ثم بنظرية ولاية الفقيه، ثم بالولاء التام للنظام، ثم الالتزام بمرجعية الإمام الخميني، بصفته قائد الثورة ومؤسس الجمهورية، مجلس الخبراء هو الذي يعين ويعزل المرشد الأعلى، وهو مجلس منتخب من الشعب، ولكن انتخابه لا يغير من حقيقة، أنه سلطة كهنوتية عليا، تأتي من دائرة ضيقة جداً من الشعب، وهي دائرة الفقهاء الموالين للنظام الثوري فقهاً دينياً وأيديولوجيا سياسية، وغير مسموح لغيرهم من فقهاء المذهب الاثني عشري بعضوية المجلس، واشتراط توفر صفة المجتهد- مع الولاء السياسي للنظام- تجعل من العسير توفير العدد المطلوب من المرشحين- 86 عضوا- ومن ثم يغلب على انتخابات مجلس الخبراء غياب المنافسة الجادة، ومن ثم يكون الفوز أقرب ما يكون إلى التزكية، وهكذا فإن السلطة الفعلية في البلاد محروم من الوصول إليها كل الشعب باستثناء فئة الفقهاء المجتهدين، والذين هم في الوقت ذاته سائرون على خطى الإمام الخميني، هذه الحقيقة تجعل تسمية الجمهورية على نظام الحكم الديني في إيران نوعاً من المجاز، أبعد ما يكون عن الحقيقة، الحقيقة هي أنه دولة دينية، يحكمها الفقهاء حكماً مباشراً.

باختصار: السلطة العليا هي للمرشد الأعلى ومجلس الخبراء أي شريحة الفقهاء الموالية للثورة والنظام والإمام الخميني، وفكرة انتخابهم من الشعب- مثل انتخابات الطغاة في الجمهوريات العربية- مجرد عمل شكلي لإضفاء دهان ديمقراطي على واقع طغياني محض. ولهذا نقرأ في نص المادة 56 من الدستور، أن السلطات الحاكمة هي التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتمارس صلاحياتها بإشراف ولي الأمر المطلق وإمام الأمة، ثم نقرأ في نص المادة 60: “يتولى رئيس الجمهورية والوزراء ممارسة السلطة التنفيذية باستثناء الصلاحيات المخصصة للقائد الأعلى- المرشد الأعلى- بموجب هذا الدستور. والدستور في المادة 110 يمنح المرشد الأعلى صلاحيات مطلقة، تقف به على قدم المساواة مع أشقائه من طغاة العرب والمسلمين في الشرق الأوسط. لذلك فإن المادة 113 من الدستور تقول: “يُعتبر رئيس الجمهورية أعلى سلطة رسمية في البلاد بعد مقام القيادة، وهو المسؤول الأول عن تنفيذ الدستور، كما أنه يرأس السلطة التنفيذية إلا في المجالات التي ترتبط مباشرةً بالقيادة. الخلاصة: رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب ليس هو القيادة، القيادة يمثلها القائد الأعلى والمرشد الأعلى، وولي الأمر المطلق وإمام الأمة الذي هو فقيه منتخب من 86 فقيهاً، موالين للنظام الثوري فقهاً دينياً وأيديولوجيا سياسية .

المرجعية الدينية الإسلامية من الوارد، أن تكون نافعة في العصر الحديث في أشياء كثيرة معاصرة، لكن ليس منها مسائل الحكم الديمقراطي، تاريخ الحكم في الإسلام لم يكن تحركه قيم الإسلام مثل، العدل والمساواة والقسط والأمر بالشورى وحرمة المال العام وحرمة الدماء والأرواح والأملاك والأعراض، الاستثناء هو الحكم في عهود الخلفاء الراشدين فقط، حيث نواجه ما يشبه المدينة الفاضلة التي شغلت أحلام الفلاسفة على مر العصور، لكن قيم الإسلام وتطبيقها العملي في عهود الراشدين زاحمها، ثم ازاحها عن مكانها فوق القمة قيم السياسة الواقعية، فتأسست الخلافة من بعدهم على القوة والتغلب والسيطرة، وسادت قيم السياسة العملية في كيف يصل الحكام للسلطة، ثم كيف يبقون في السلطة، ثم كيف يورثون أبناءهم السلطة؟ وكان الجواب هو القوة المحضة وقوانين السياسة العملية منزوعة المبدأ والقيمة والأخلاق، القوة للقوة، والسياسة للسياسة، من أول خليفة أموي، حتى آخر خليفة عثماني.

لذلك، فأي استدعاء للمرجعية الإسلامية في الحكم العملي والسياسة العملية، هو استدعاء مباشر وصريح لنموذج من الطغيان، كان هو السبب الأكبر في تمزق عالم الإسلام، ثم انطفاء حضارته، ثم تدني موقع المسلمين في موازين القوة العالمية، ثم انخفاض، إن لم يكن انعدم مساهمتهم في الحضارة المعاصرة، لو تم استدعاء مرجعية الإسلام في العدل والمؤاخاة والمساواة وحرية العقيدة وحرية التفكير وحرمة الدماء والأرواح والأعراض والأموال؛ لكان ذلك أدعى لعدم الوقوع في فخ إعادة انتاج الطغيان العربي، وغير العربي الذي جرت ممارسته تحت عباءة الإسلام، وهذا خطأ شائع، انزلقت إليه ثورة إيران، مثلما انزلقت إليه كافة تنظيمات الإسلام السياسي التي تغافلت، عما في الاجتماع الإسلامي التاريخي من نبوغ وتحضر وثراء وعبقرية وازدهار، وذهب، تضرب الغطس في مستنقعات الجانب السياسي العملي للسلطة في تاريخ الإسلام، عظمة الحضارة الإسلامية لم تكن في الحكم والسياسة، عظمة الحضارة الإسلامية كانت في المجتمع وسماحته وتعدده وتنوعه وشموله لكافة الناس مسلمين وغير مسلمين، ومتدينين وغير متدينين، هذا المجتمع هو الذي امتص واستوعب من قيم الإسلام، ما كان كفيلاً بظهور مدارس الفقه والفكر والفلسفة والترجمة واللغة والأدب والعلوم والفنون كافة، هذا الاجتماع الإسلامي هو ما أعطى حضارة الإسلام معنى وقيمة، ما زالت تنال إعجاب من يقرأها ويطلع عليها حتى اليوم والغد.

باختصار شديد: أي بعث جديد لحضارة الإسلام، يلزمه أن يدخل بوابة العصر الراهن من معابر الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة الشعوب واحترام إرادة الفرد واختياراته في حياته الخاصة والعامة، الفرد هو ولي أمر نفسه، والشعوب سيدة أمر نفسها، والمجتمعات سيدة قرارها، ليس من الصواب التاريخي إعادة إنتاج خبرات قديمة مثل، أمير المؤمنين أو ولي الأمر أو أولياء الأمر أو الإمام ونائبه أو أهل الحل والعقد، كل ذلك ينوب عنه في عصرنا مبدأ المسئولية الفردية، ثم المسئولية الاجتماعية، ثم سيادة القانون فوق رؤوس الجميع دون استثناء، وهي- في جوهرها- ترجمة عملية لإرادة الخالق الذي كرم الإنسان، ومنحه العقل والبصر والبصيرة والضمير، بما يكفي ليكون مخلوقاً راشداً ورشيداً وناضجاً ومسئولاً مسئولية كامله عن مصالحه وتقدمه، ومصالح من يلزمه أمرهم وتقدمهم . 

عندما كانت فصول الثورة الإيرانية تتوالى على مدار عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، حتى وصلت ذروتها عامي 1978 – 1979 م، كانت نموذجا ملهماً مبدعاً يحظى بإعجاب كل المؤمنين بالحريات وحقوق الشعوب في صنع واقعها ومستقبلها، كانت نافذة للآمال العظيمة ليس للشعب الإيراني وحده، لكن لكل الشعوب المبتلاة بالطغيان في العالم كله، لكن ما إن حققت الثورة أغراضها في تهشيم النظام البهلوي، ثم كنسه إلى مخازن التاريخ، حتى ظهرت التصميمات الأولية لهيكل ديكتاتورية وليدة جديدة حظيت- في ساعة السكرة- بقبول الشعب في استفتاء عام خاطف وسريع، ولو- على سبيل الافتراض- أُتيح للشعب الإيراني حق الاستفتاء من جديد، على ما كان قد وافق عليه في ديسمبر 1979 م؛ لظهرت اتجاهات مختلفة تماما. ينطبق على الجمهورية الإسلامية، ما ينطبق على ظاهرة الإسلام السياسي من أفول بالمعنى التاريخي، ظاهرة، تمتد جذورها إلى مطلع القرن العشرين، وتبدو غير ذات أفق أو مستقبل في القرن الحادي والعشرين.

الحديث مستكمل في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.