“إخوتي أبناء العرب، إن لم يكن لكم دين، فليكن فيكم غيرة ونخوة”.

كانت تلك وصية خطية منسوبة للجندي الأردني السابق “ماهر الجازي”، قبل أن يقود شاحنته إلى معبر اللنبي، ويردي ثلاثة جنود أمن إسرائيليين برصاص مسدسه، ويلقى حتفه.

الوصية بتوقيتها ورسالتها، تكاد أن تكون نسخة أخرى، مما كتبه الجندي المصري “عبد الله رمضان” على صفحته الشخصية بالـ “فيس بوك” قبل استشهاده: “غزة يا رب”.

كلاهما “رمضان” و”الجازي”، دعته المجازر المرتكبة بحق المدنيين الفلسطينيين إلى التصرف الانفرادي الغاضب؛ تعبيرا عما في الصدور من شعور فادح بالعجز، لا يجد صداه في السياسات الرسمية.

لم يكونا أول من أطلق الرصاص بالقرب من الحدود المصرية والأردنية مع فلسطين المحتلة.

في مصر اتصلت منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، عمليات واشتباكات بين جنود غاضبين والقوات الإسرائيلية.

أولها، عملية الجندي “سليمان خاطر”، ابن محافظة الشرقية، الذي جاء موته في زنزانة سجنه غامضا ومريبا.

ثانيها، عملية الجندي “أيمن حسن” ابن نفس المحافظة، الذي يكابد الآن للحصول على ما يستحقه من علاج.

وكان أكثرها دويا عملية الجندي “محمد صلاح”، ابن حي عين شمس الشعبي القاهري، الذي ألهم فكرة التضحية مجددا.

رمزية “عبد الله رمضان” في توقيت عمليته، التي جرت وقائعها إثر “مذبحة الخيام” عند احتياج رفح الفلسطينية على مرمى البصر.

بدا اشتباكه مع القوات الإسرائيلية المتمركزة عند محور فيلادليفيا إشارة عميقة على الوجع المكتوم في الضمير المصري.

ورمزية عملية “ماهر الجازي”، أنها بدت ردة فعل طبيعية وإنسانية للمجازر التي ترتكب على مرمى البصر في الضفة الغربية، وفيما تحمله من إشارات ورموز وإرث تاريخ ماثل في الذاكرة.

يطلق على المعبر من الجانب الأردني اسم “الملك حسين”، فيما ينسبه الإسرائيليون إلى “إدموند اللنبي”.

لماذا “اللنبي”؟!

إنه الجنرال البريطاني الذي تمكن من الاستيلاء على القدس أثناء الحرب العالمية الأولى؛ منهيا أربعة قرون من السيطرة العثمانية عليها.

إنه رمز صريح للدور البريطاني في الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، والتمكين بقوة السلاح؛ لتنفيذ وعد “بلفور” بإنشاء وطن قومي لليهود الذي صدر عام (1917) مترافقا مع استيلاء قوات الجنرال “اللنبي” على فلسطين وسوريا.

لم يكن وعد “بلفور” وعدا في فراغ الأماني الصهيونية، بقدر ما كان تعبيرا عن سياسات على الأرض، تجري بقوة السلاح ووفق ترتيبات، تستكمل إعادة تقسيم المنطقة وفق اتفاقية “سايكس- بيكو”، التي وقعت بالعام السابق مباشرة (1916).

يستلفت الانتباه، أن احتلال القدس حمل اسم “عملية سيناء وفلسطين”.

من دواعي إعادة النظر، أنه قد استخدم فيها مقدرات مصرية، دون أن ينبس أحد هنا بكلمة.

بقوة الوثائق الثابتة، كانت مصر في قلب الاستهداف.

كان الغرض الاستراتيجي من إنشاء دولة يهودية في هذا الموضع الجغرافي، أن تكون دولة حاجز بين مصر والشام، فلسطين وسوريا معا، خشية أن تتحول مصر مستقبلا إلى قوة عظمى، إذا اتصلت بمحيطها المباشر عند حدودها الشرقية.

كانت تلك فكرة “نابليون بونابرت”، التي دعا إليها أثناء حملته على مصر.

لا يصح تجاهل الحقائق، أو محاولة تفكيك أواصر المصير بين مصر وعالمها العربي، خاصة في فلسطين وسوريا.

إنه تفريط صريح بأهم مقومات أمنها القومي، بقدر ما هو تفريط آخر في الأمن القومي العربي كله.

بالتوقيت نفسه، لم تكن مصادفة نزع لبنان عن وطنه الأم سوريا في عام (1920) بذريعة حماية الأقلية المارونية من التغول عليها إثر حروبها الدامية مع الدروز.

هكذا تأسست أول دولة طائفية في المشرق العربي باسم الاستقلال، الذي أعلنه- بالمفارقة الموجعة- الجنرال “هنري جورو” قائد القوات الفرنسية في الحرب العالمية الأولى.

عند قبر “صلاح الدين الأيوبي” في دمشق قال الجنرال “جورو”: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”.. ثم ركل القبر بقدمه!

بقوة إرث التاريخ اكتسب معبر “اللنبي” رمزيته الاستعمارية، لكنه استدعى بالوقت نفسه عمليات واشتباكات، ترفض رفع الرايات البيضاء.

بقرب ذلك المعبر، جرى استهداف دبلوماسيين إسرائيليين بعبوات ناسفة عام (2010).

وبالمقابل، قتل قاض أردني برصاص الجيش الإسرائيلي عام (2014).

كما كان المكان نفسه ميدانا لتسريب رجال وسلاح إلى داخل الضفة الغربية.

اكتسبت عملية “الجازي” رمزيتها من إرث التاريخ، كما من ردة فعلها على جرائم الحرب الإسرائيلية.

لم تكن مصادفة ما لاقته من ترحيب شعبي واسع داخل الأردن، وفي العالم العربي كله، واستدعاء ذكرى “معركة الكرامة”، التي دأب الفلسطينيون على نسبة المعبر إليها.

بتلك المعركة تصدى في (21) مارس (1968) الجيش الأردني مدعوما من فصائل فلسطينية، أهمها في ذلك الوقت “فتح” و”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، لتوغل قوات إسرائيلية داخل بلدة الكرامة في محاولة لاحتلال نهر الأردن.

امتدت المواجهات بطول الحدود على مدى ساعات طويلة.

اندحرت القوات الإسرائيلية، دون أن تحقق أهدافها.

كان ذلك داعيا لرفع الروح المعنوية في العالم العربي كله، ودعما للبطولات المصرية في سيناء المحتلة أثناء حرب الاستنزاف.

استدعاء التاريخ برموزه ومعانيه في عملية “الجازي”، اكتسب زخمه، من أن قائد القوات الأردنية في معركة الكرامة ينتمي إلى عشيرة الحويطات، التي ينتسب إليها بطل عملية المعبر الأخيرة.

إنه العقيد “مشهور الجازي”، الذي تقلد فيما بعد قيادة القوات المسلحة الأردنية برتبة “فريق”.

إرث التاريخ حاضر في المشهد بكل تجلياته ورموزه ورسائله بذات قدر الترويع والتقتيل الجماعي، والتجويع المنهجي والإذلال المتعمد للأسرى الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.

إنه صراع على الوجود، حسبما يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” ساعيا إلى حسمه بتهجير قسري، أو طوعي للفلسطينيين من غزة إلى سيناء ومن الضفة الغربية إلى الأردن.

هذا ما يقصده تماما وزير المالية الإسرائيلي المتطرف “بتسلئيل سموتريش” بقوله، إنه لن يقبل مطلقا وجود دولة فلسطينية، حتى لو كانت محاصرة ومنزوعة السلاح.

جموح القوة الإسرائيلية، يكاد يدفع المنطقة بأسرها إلى حربين مدمرتين لا تقدر عليهما.

أولهما، إقليمية لا يريدها أحد باستثناء “نتنياهو” وحكومته اليمينية المتطرفة، حتى يمكنه البقاء في الحكم، رغم أن جيشه منهك ونخبه العسكرية والاستخباراتية تطلب إيقاف الحرب بصفقة تبادل أسرى ورهائن، لا فتح جبهات أخرى.

وثانيهما، دينية بالاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، التي يقودها وزير الأمن القومي “إيتمار بن جفير” وتهدده بالنيل من سلامته، وربما هدمه.

هذا السيناريو لا تقدر إسرائيل ولا أية قوة دولية داعمة لها على كبح ردات فعله.

بدا مستلفتا في المناظرة الرئاسية الأمريكية، ما توقعه المرشح الجمهوري الرئيس السابق “دونالد ترامب”، من إنه إذا تولت منافسته الديمقراطية “كامالا هاريس” الرئاسة، فإن إسرائيل سوف تختفي بغضون عامين!

وجه المخاتلة هنا، أنه يتبنى المقولات والسياسات اليمينية المتطرفة، التي تنزع أية شرعية أخلاقية عن الدولة العبرية، وتدفعها إلى النهايات المحتمة بقوة إرث التاريخ والدم.