حدثت الموقعة، وتابع الكثيرون داخل أمريكا وخارجها المناظرة المعتادة التي جرت أول مرة في سبتمبر ١٩٦٠ بين نائب الرئيس الأمريكي الجمهوري ريتشارد نيكسون، وبين منافسه السيناتور الديمقراطي جون كنيدي، وعادت وتكررت مرة جديدة مع نائبة الرئيس الأمريكي الحالي كمالا هاريس، وبين الرئيس السابق دونالد ترامب، واستمرت نحو ساعتين.

 وقد نظمت هذه المناظرة بشكل دقيق ومفصل، وخرجت بصورة أفضل من مناظرة ترامب بايدن، فقد كانت مدتها الصافية 90 دقيقة، مع فواصل إعلانية. لا يُسمح خلالها لترامب وهاريس بالتحدث إلى مساعديهما، كما تم كتم صوت الميكروفونات طوال المناظرة، إلا عندما يحين دور المرشح للتحدث، كما غاب جمهور كلا المرشحين عن الحضور داخل الاستوديو، وأعطى المنظمون لكل مرشح دقيقتين للإجابة على الأسئلة، ودقيقتين للرد، ودقيقة واحدة للمتابعة أو التوضيحات أو الردود، وحتى مكان الوقوف على خشبة المسرح، لم يترك لاختيار المرشحين ولا المنظمين ولا فريقهما الانتخابي، إنما تم رمي عملة معدنية، كما يحدث في مباريات الكرة، وعلى أساس نتيجتها، تم تحديد مكان كل مرشح، ومن سيبدأ “ضربة البداية”.

ويمكن القول، إن كلا المرشحين قدما أفضل ما عندهما في هذه المناظرة، وإن كانت الاستطلاعات التي خرجت بعدها، تشير إلى أن هاريس تفوقت على ترامب.

والحقيقة أن هناك مجموعة من القضايا والملفات التي اختلف فيها كلا المرشحين بشكل واضح، أولهما الملف الاقتصادي، بجانب ملف الهجرة والحدود وحرب غزة، وقضية الإجهاض، وغيرها.

وقد بدأ كل مرشح المناظرة، وهو يعرف بشكل عملي عيوب منافسه “بالصوت والصورة” فترامب كان في الحكم وإيجابياته القليلة معروفة وسلبياته الكثيرة أيضا معروفة، ويتحمل بشكل مباشر أو غير مباشر مسئولية الاحتجاجات الغوغائية التي اقتحمت مبني “الكابيتول”، أما هاريس فهي نائبة رئيس في الحكم وساقتها الأقدار، بعد أن كانت تستعد لكي تكون جزءا من حملة بايدن، ونائبته، إلى أن تصبح مرشحة رئاسية، وأن سياسة إدارتها اختبرت؛ لأنها كانت جزءا من الحكم السابق.

فيما يتعلق بالملف الاقتصادي، فقد كان خطاب هاريس واضحا في انحيازه للطبقة الوسطي والرأسمالية الصغيرة، وقالت دون أن تدخل في تقييم مرحلة بايدن، إنها تخطط لبناء “اقتصاد الفرص”. وتعهدت بمعالجة تكاليف الإسكان ومساعدة الأسر والأعمال التجارية الصغيرة، أما ترامب فتجاهل اتهامه بمحاباة الشركات الرأسمالية الكبرى، ورد بالقول إنه سيفرض رسوما جمركية على دول أخرى، كما فعل مع الصين.

ولم تفوت هاريس فرصة للهجوم على ترامب حين قالت: “ترك لنا دونالد ترامب أسوأ حالة بطالة منذ الكساد الأعظم” وأضافت “ما فعلناه هو تنظيف الفوضى التي خلفها دونالد ترامب”.

أما القضية الثانية، فكانت قضية الإجهاض، وهنا اتهم ترامب الديمقراطيين، أنهم يوافقون على اجهاض نساء في الشهر التاسع، بل وإعدام الأطفال حديثي الولادة، وهو بالطبع غير صحيح، ولم يحدث أن قبلوا إجهاض الجنين في الشهر التاسع؛ لأنه يعد مولودا مع وقف التنفيذ، كما لم يحدث أي عملية إعدام لأطفال حديثي الولادة في أي ولاية أمريكية، واتضح أن هناك فجوة بين الجانبين حول هذه القضية، فترامب قال إنه يوافق على الإجهاض في حال الاغتصاب، وزنا المحارم فقط، أما هاريس فأكدت على إنه يجب أن يكون حق لأي امرأة، ما دام لم يكتمل الجنين. وعلى خلاف ملفي الاقتصاد والإجهاض اللذين تفوقت فيهما هاريس، على ترامب، فأن الأخير تفوق في ملف الهجرة وأمن الحدود، حيث كان أكثر قطعية ووعد بوضع رقابة صارمة على الحدود واستكمال بناء السور الذي يفصل الولايات المتحدة عن المكسيك، حتى ردد أكاذيب مضحكة، عجبت البعض، واستفزت الكثيرين، وجعلت تفوقه النسبي في هذا الملف محل نقاش.  فقد قال ترامب، إن: “الديمقراطيين سمحوا للملايين من المهاجرين بالدخول إلى البلاد، ما أدى إلى انخفاض نسبة الجرائم في العالم وارتفاعها في الولايات المتحدة”، وادعى أنهم يأكلون القطط والكلاب في عدد من الولايات، وهو ادعاء كاذب لا أساس له من الصحة، وهو ما دفع هاريس إلى استخدم سلاح الهجوم الشخصي، حين قالت إنه أمر مبالغ فيه للغاية، أن يأتي من شخص تمت مقاضاته بتهمة ارتكاب جرائم، تتعلق بالأمن القومي، وجرائم اقتصادية، والتدخل في الانتخابات.

أما القضية الثالثة، التي تطرقت لها المناظرة فكانت الحرب في غزة، وهنا بادر ترامب بالهجوم على هاريس واتهمها، بأنها تكره إسرائيل، في حين إنه يمكن اتهامها، أنها منحازة لإسرائيل، ولكنها تعلن ضرورة حماية المدنيين الفلسطينيين، ولا توافق على بعض الممارسات الإسرائيلية، في حين أن ترامب يعتبر قيام دولة الاحتلال بقتل الأطفال والنساء في غزة عمل “Job”، يجب على إسرائيل إتمامه.

إن المواقف الخافتة التي اتخذتها إدارة بايدن/هاريس في مواجهة العدوان الإسرائيلي، وشحنة السلاح اليتيمة التي أوقفتها مؤقتا، قبل أن تعيد إرسالها لإسرائيل، لم تمنع ترامب من مهاجمتها في محاولة لتأليب اللوبي الصهيوني عليها، واتضح من تأكيدها قبل أي كلمة تعاطف مع المدنيين الفلسطينيين، على القول إنها تدعم إسرائيل في مواجهة إيران وحلفائها مدى قوة اللوبي الداعم لإسرائيل في أمريكا، وتأثيره الهائل إعلاميا وسياسيا وماليا، وهو ما يدفع جميع المرشحين إلى الحرص على نيل رضا تل أبيب، بما فيهم المرشحين المعتدلين من الحزب الديمقراطي، فيما عدا الجناح التقدمي الذي مثله ساندرز، والذي انتقد بوضوح الممارسات الإسرائيلية، وطالب بأن توقف أمريكا تسليحها، ولذا لم يستطع، أن يكون مرشح الحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة.

وقد ظلت هناك قضايا خلافية أخرى مثل، الموقف من التأمين الصحي والحرب في أوكرانيا وغيرها من القضايا التفصيلية التي أوضحت بصورة أكبر الفارق في توجهات المرشحين وتركيبتهم الشخصية.

 ستظل هذه المناظرة فاصلة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية؛ لأن فوز كمالا هاريس، كما نرجح، سيعني نجاح الديمقراطية الأمريكية في الانتصار على مرشح، ليست مشكلته إنه في أقصي اليمين، إنما لأنه أدمن الكذب والارتجالية وكراهية العلم، ومارس التمييز الذي وصل لحد العنصرية بحق ليس فقط أبناء الحضارات الأخرى، إنما ضد كل ألوان البشرة غير البيضاء.