الفارق بين إسرائيل وجيرانها العرب كبير، ليس فقط على المستوى العسكري والاقتصادي والسياسي، إنما أيضا على المستوى التكنولوجي والحضاري، وتجلى في عملية أول أمس في لبنان، والتي استهدفت أجهزة “البيجر” المستخدمة من قبل عناصر حزب الله، فسقط ١١ شهيدا، بينهم طفلان، وحوالي ٣ آلاف جريح، بينهم نحو ٣٠٠ في حالة حرجة. 

وفي اليوم التالي، تكررت التفجيرات مرة أخرى، واستهدفت أجهزة اللاسلكي الخاصة بعناصر حزب الله أيضا، وحصدت أرواح أكثر من اليوم الأول؛ فوصلت إلى ٢٠ شخصا، وأصيب حوالي ٥٠٠ آخرين، وبات السؤال حول حجم القدرات الإسرائيلية ودرجة تفوقها التكنولوجي مقارنة بجيرانها العرب سؤالا مشروعا ويجب مناقشته.

صحيح أن هذا التفوق لم يأت من فراغ، ولم يتعمق من خلال فقط جهود ذاتية إسرائيلية، إنما جاء أيضا نتيجة؛ دعم وانحياز حضاري وسياسي ميز فيه الغرب بين إسرائيل والعرب، وبين مدني فلسطيني وآخر إسرائيلي، وبين طفل يسقط قتيلا يتكلم العبرية وآخر يتكلم العربية، ومسن أشقر وآخر خمري اللون، وهو ما لم يحدث في حرب روسيا مع أوكرانيا التي دعم فيها الغرب دولة حليفة في مواجهة أخرى معادية، ولكنها لم تعكس الروح التمييزية بين البشر، كما جرى في حرب غزة. 

والحقيقة، أن فجاجة الموقف التمييزي الغربي تجاه ما يجري في قطاع غزة، وما جرى أيضا ضد بشر في لبنان، فتح الباب لمناقشة الأبعاد التي جعلت هذه النظرة التمييزية حاضرة بهذه الطريقة لدى النخب الحاكمة، بحيث تجاوز الأمر تحالف بين غرب صاحب تاريخ استعماري مع دولة استعمارية جديدة؛ ليصل إلى أبعاد حضارية وثقافية واضحة، أخرجها هذا التواطؤ الذي قامت به دولة مثل المجر، أو وكيل شركة البيجر هناك واختراقها هذه الأجهزة لصالح إسرائيل، وحتى لو تم هذا الاختراق، بدون تواطؤ الحكومة أو الشركة المجرية، فإن العالم كله لن يستطيع، أن يحاسب إسرائيل على هذه الجريمة.

والحقيقة، أن عدوان بيروت يجب أن يُقرأ في إطار قدرة دولة الاحتلال على تحقيق اختراق عابر للحدود، سواء من خلال الشركة الأم أو عن طريق وكيلها أو من خلال عملية الشحن، وهو ما يضعها في درجة تفوق تكنولوجي، يحتاج إلى تأمل وتحليل عميق، سواء فيما يتعلق بأداء المقاومة أو حتى أداء قوى الاعتدال.

الفارق العسكري والتكنولوجي بين دولة الاحتلال، وقوى المقاومة واسع، صحيح أن الأخيرة ظلت تعمل على تقليصه من خلال البناء العقائدي لعناصرها واستعدادهم للتضحية والاستشهاد في سبيل قناعتهم، كما عملت على مواجهة إسرائيل بأساليب غير تقليدية فيها من الكر والفر وحرب العصابات، وبنت شبكة أنفاق عنكبوتية هائلة، كل ذلك جعل صمودها وشجاعة عناصرها مؤكد، ولكنه لا يضمن النصر.

التفوق الإسرائيلي دُعم وترعرع غربيا وأمريكيا، وأن مواجهته يجب أن تكون باستخدام كل أدوات المقاومة، سواء كانت المدنية أو المسلحة، مع اعتبار أن الأصل هو المقاومة المدنية والشعبية، كما جرى مع انتفاضة الحجارة التي بفضلها خرج اتفاق أوسلو للنور، وكان يفترض أن يؤدي لبناء دولة فلسطينية مستقلة، لكن أجهضتها سياسات الاستيطان الإسرائيلية وجرائم جيش الاحتلال.

أما المقاومة المسلحة فلا يجب أن تعتبر المقاومة المدنية، والشعبية “تخاذل” ولا الحرص على المواجهة الحضارية والسياسية تراجع، لأن مشكلة المقاومة المسلحة، إنها ليست فقط أو أساسا تواجه عدو أكثر قوة وشراسة من كل فصائلها، إنما لكونها أيضا بدون هذا الغطاء الحضاري والسياسي، لن تحقق النصر المنشود.

ليس مطلوبا، أن تكون فقط البيئة الداعمة للمقاومة صامدة ومستعدة للشهادة، إنما أيضا أن تكون محمية، أو على الأقل أن يكون هناك حرص على حمايتها من قبل فصائل المقاومة.

الفارق الحضاري والتكنولوجي بين إسرائيل وجيرانها العرب، لايجب أن تتجاهل تأثيره قوى المقاومة، فحماس وحزب الله مصنفان كتنظيمات إرهابية (حزب الله تنظيمه المسلح فقط) لدى المجتمع الدولي، وهو يعطي منذ البداية تفوقا سياسيا لإسرائيل وحضورا على الساحة الدولية، باعتبارها دولة تحارب الإرهاب، وجعل عملية اختراق أجهزة البيجر واللاسلكي في لبنان، تمر بكل سهولة ولن يترتب عليها أي محاسبة.

معضلة قوى المقاومة، أنها لا تمتلك حضورا سياسيا له علاقة بالعالم والدنيا، قادرا على التأثير في المنظومة الدولية، فمثلا الجناح العسكري لحركة حماس، يتصرف تقريبا بشكل شبه منفصل عن الجناح السياسي، وهي لا تستطيع التفاوض مع أعدائهما أو مع مخالفيهم في التوجه دون وجود وسطاء.

 أما المتضامنون مع القضية العادلة للشعب الفلسطيني في الدول الغربية، فنجدهم يؤكدون أنه ليس لهم علاقة بحماس، وأن من سيتضامن مع لبنان بعد حوادث أول أمس، لن يقول إنه متضامن مع حزب الله، إنما مع الشعب اللبناني على عكس داعمي إسرائيل الذين يمثلون دوائر صنع القرار والنخب المالية، والإعلامية والسياسية الذين جعلوا ليس فقط تفوق إسرائيل العسكري والتكنولوجي مضمونا، إنما حمايتها أيضا.

الفارق الحضاري والتفوق العسكري والتكنولوجي، كان دائما في صالح دول الاحتلال، ولكن قوى المقاومة عوضته بالشرعية السياسية والأخلاقية والمدنية، وحين اضطرت أن تقاوم بالسلاح فعلت، وهذا ماجرى في تجارب التحرر الوطني الذي شكل الجناح السياسي لقوى المقاومة غطاء سياسيا دوليا لتنظيماتهم المسلحة، سواء كان ذلك بالنسبة للمؤتمر الوطني في جنوب إفريقيا، والذي خاض النضال المسلح والسياسي، حتى التحرر والقضاء على نظام الفصل العنصري، ونفس الأمر بالنسبة لجبهة التحرير الوطني الجزائرية التي استخدمت العنف، وصنفتها فرنسا في البداية، بأنها جماعة إرهابية، ولكنها امتلكت “جهاز سياسي”، قاد مظاهرات في أوروبا، وخاصة في فرنسا البلد المحتل، وامتلك شرعية أن يفاوض الاحتلال، حتى نالت الجزائر استقلالها.

على من يقاومون إسرائيل بالأدوات المدنية، رغم كل الجرائم التي ترتكبها، أو بالأدوات المسلحة، رغم الثمن الباهظ الذي يُدفع سواء في غزة أو لبنان، أن يعتبروا أن البعد الحضاري والتفوق التكنولوجي حاضر في هذا الصراع، وتقليل تأثيره لن يكون فقط بالصمود، إنما أيضا بامتلاك مشروع سياسي ومدني للمقاومة قادر على التأثير والتواصل مع العالم وبناء دولة قانون ومشروع ديمقراطي طويل الأجل في الداخل، يحقق العدل والتنمية الاقتصادية، تؤسس لمجتمع قادر على مواجهة إسرائيل في الساحات المدنية والعلمية والتكنولوجية.