ترجمة -ماجد عاطف
في الساعة الثالثة والنصف بتوقيت بيروت يوم 17 سبتمبر 2024 ، بدأت أجهزة ” البيچر” في إطلاق صافرتها مخبرة حامليها من رجال حزب الله بقدوم رسالة لهم من قيادة الحزب.
لكن الرسائل لم تكن من قادتهم وإنما أتت من أعدائهم، أتت من اسرائيل، وفي غضون ثوان قليلة تبعت هذه الرسائل أصوات انفجارات وصرخات ألم وذعر في الشوارع والمحلات والمنازل بمختلف أنحاء لبنان.
وبحسب شهود عيان ومقاطع فيديو، فإن الانفجارات التي نجمت عن استخدام مادة متفجرة مخبأة داخل أجهزة البيچر، أدت إلى تطاير البعض وسقوط البعض الآخر على الأرض في قلب الأسواق وهم يتلوون من الألم، بينما يتصاعد الدخان من جيوبهم.
يقول محمد عواضة (52 عاما) إن ابنه كان يقود سيارته بجوار رجل انفجر جهاز البيجر الخاص به “جن جنون ابني وبدأ في الصراخ عندما رأى يد الرجل تطير بعيدا عنه”.
وبحلول نهاية اليوم، كان ما لا يقل عن اثني عشر شخصاً قد لقوا حتفهم وأصيب أكثر من 2700 شخص بإصابات متباينة.
وفي اليوم التالي، قُتل عشرون شخصاً آخرين وجُرح المئات عندما بدأت أجهزة الاتصال اللاسلكي (التوكي واكي) تنفجر بشكل غامض في لبنان، وكان أغلب القتلى من أعضاء حزب الله، فضلا عن أربعة أطفال.
قال مسؤولون رسميون إن أجهزة اتصال لاسلكية (توكي وكي) تابعة لأعضاء حزب الله انفجرت في أنحاء لبنان يوم الأربعاء، مما أسفر عن مقتل أكثر من 12 شخصا وإصابة المئات، ولم تؤكد إسرائيل أو تنفي أي دور لها في الانفجارات، لكن 12 مسؤولاً استخباراتياً تحدثوا إلى صحيفة نيويورك تايمز (بشرط عدم الكشف عن هوياتهم) كاشفين إن إسرائيل كانت وراء الانفجارات في عملية استخباراتية وصفت بالمعقدة طويلة الأمد.
لطالما كانت الجماعات المدعومة من إيران مثل حزب الله عرضة للهجمات الإسرائيلية باستخدام تقنيات متطورة في عام 2020، على سبيل المثال، اغتالت إسرائيل أكبر عالم نووي إيراني باستخدام روبوت يتم التحكم فيه بالذكاء عن بعد عبر الأقمار الصناعية بالذكاء الاصطناعي. كما استخدمت إسرائيل أساليب القرصنة الحديثة لعرقلة البرنامج النووي الإيراني.
في خطاب تلفزيوني ألقاه السيد نصر الله في فبراير الماضي لأتباعه، قال: “تسألونني أين العميل؟ فأقول لكم إن الهاتف الذي بين أيديكم، وفي أيدي زوجاتكم، وفي أيدي أبنائكم هو العميل”.
ثم أصدر نداءه “ادفنوها، وضعوها في صندوق حديدي وأغلقوها”.
وكان نصر الله قد ظل لسنوات يدفع حزب الله إلى الاستثمار في أجهزة “البيچر” والتي على الرغم من قدراتها المحدودة يمكنها تلقي البيانات دون الكشف عن موقع المستخدم أو أي معلومات أخرى خطيرة، وفقًا لتقييمات الاستخبارات الأمريكية.
وبينما كان زعيم حزب الله حسن نصر الله يلقي كلمته المتلفزة متحدثا عن حتمية التوسع في استخدام أجهزة “البيچر” كانت المخابرات الإسرائيلية تتابع الخطاب وتخطط لإنشاء شركة وهمية تعمل على تقديم نفسها كمنتج دولي لأجهزة البيچر.
تعاقدت شركة BAC Consulting ومقرها المجر مع شركة Gold Apollo. التيوانية لإنتاج أجهزة البيچر، لكن في حقيقة الأمر ، كانت هذه الشركة جزءاً من واجهة إسرائيلية. وفقاً لثلاث ضباط استخباراتين اطلعوا على العملية. وقالوا إن شركتين وهميتين أخريين على الأقل تم إنشاؤهما أيضاً لإخفاء الهويات الحقيقية للأشخاص الذين يصنعون أجهزة البيچر وهم ضباط استخبارات إسرائيليون.
تعاملت شركة BAC مع عملاء عدة حيث أنتجت لهم مجموعة من أجهزة البيچر. ولكن العميل الوحيد الذي كان مهماً حقاً هو حزب الله، وكانت أجهزة البيچر التي تنتجها بعيدة كل البعد عن الأجهزة العادية. ووفقاً لضباط الاستخبارات الثلاثة، كانت هذه الأجهزة، التي تم إنتاجها بشكل منفصل، تحتوي على بطاريات مملوءة بمادة PETN المتفجرة.
بدأ شحن أجهزة البيچر إلى لبنان في صيف عام 2022 بأعداد صغيرة، لكن الإنتاج تسارع بسرعة بعد أن ندد السيد نصر الله بالهواتف المحمولة. بعد أن وصلت إسرائيل لطرق جديدة لاختراق الهواتف، وتفعيل الميكروفونات والكاميرات عن بعد للتجسس على أصحابها.
ووفقاً للمسؤولين الاستخباراتيين الثلاث، فقد استثمرت إسرائيل ملايين الدولارات في تطوير هذه التكنولوجيا، وانتشرت الأخبار بين حزب الله وحلفائه بأن أي اتصال عبر الهاتف المحمول ــ حتى تطبيقات الرسائل المشفرة ــ لم يعد آمناً.
لم يكتف السيد نصر الله بحظر استخدام الهواتف المحمولة في اجتماعات عناصر حزب الله، بل أمر أيضاً بعدم تبادل تفاصيل تحركات حزب الله وخططه عبر الهواتف المحمولة، كما قال ثلاثة مسؤولين استخباراتيين. وأمر ضباط حزب الله بحمل أجهزة “البيچر” بدلا منها. وخلال الصيف، زادت شحنات أجهزة البيچر إلى لبنان، حيث وصلت الآلاف منها إلى البلاد وتم توزيعها بين ضباط حزب الله وحلفائهم، وفقا لمسؤولين استخباراتيين أميركيين.
بالنسبة لحزب الله، كانت هذه الأجهزة بمثابة إجراء دفاعي، ولكن في إسرائيل، كان ضباط الموساد يشيرون إلى أجهزة البيچر باعتبارها “أزراراً” يمكن الضغط عليها عندما يبدو الوقت مناسباً.. ويبدو أن تلك اللحظة جاءت هذا الأسبوع.
في حديثه لمجلس الوزراء يوم الأحد الموافق 15 سبتمبر ، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إنه سيفعل كل ما في وسعه لتمكين أكثر من 70 ألف إسرائيلي نزحوا بسبب القتال مع حزب الله من العودة إلى ديارهم، وفقًا لتقارير في وسائل الإعلام الإسرائيلية. وقال إن هؤلاء السكان لا يمكنهم العودة دون “تغيير جذري في الوضع الأمني في الشمال”
ولإحداث الانفجارات، وفقا لثلاثة مسؤولين في الاستخبارات والدفاع، قامت إسرائيل بإرسال رسالة باللغة العربية بدا وكأنها جاءت من القيادة العليا لحزب الله.
وبعد ثوانٍ، عمّت الفوضى لبنان.
ومع سقوط هذا العدد الكبير من الجرحى، زحفت سيارات الإسعاف عبر الشوارع، وسرعان ما امتلأت المستشفيات بالمصابين. وقال حزب الله إن ثمانية على الأقل من قيادته قد قتلوا، لكن مدنيين أيضا لقوا مصرعهم.
في قرية السراعين في سهل البقاع بلبنان، كانت فتاة صغيرة في التاسعة من عمرها تدعى فاطمة عبد الله قد عادت لتوها إلى المنزل من أول يوم لها في الصف الرابع الابتدائي عندما سمعت جهاز البيچر الخاص بوالدها يصدر صوتاً، حسبما قالت عمتها. فحملت الجهاز لتحضره إليه فانفجر بين يديها موديا بحياتها.
وبينما كان الآلاف يتجمعون في الضاحية الجنوبية لبيروت لحضور جنازة أربعة رجال قتلوا في الانفجارات، اندلعت الفوضى من جديد: ووقع انفجار آخر.
وفي خضم الدخان الكثيف، اندفع المشيعون المذعورون إلى الشوارع بحثاً عن ملجأ في ردهات المباني القريبة. وكان كثيرون منهم يخشون أن ينفجر هاتفهم أو هاتف شخص يقف بجانبهم في الحشد. فتعالت الصرخات “أغلق هاتفك” “أخرج البطارية!”
بالنسبة للبنانيين، كانت الموجة الثانية من الانفجارات تأكيداً للدرس الذي تعلموه في اليوم السابق: إنهم يعيشون الآن في عالم يمكن فيه تحويل أكثر أجهزة الاتصال شيوعاً إلى أدوات موت. وفي خضم هذه الفوضى أوقفت امرأة تدعى أم إبراهيم مراسلا أجنبيا وتوسلت إليه أن تستخدم هاتفه المحمول للاتصال بأطفالها. وما أن أعطاها هاتفه حتى اتصلت بهم ويدها ترتعش وصرخت قائلة: “أغلقوا هواتفكم .. أغلقوها الآن!”
نقلا عن نيويورك تايمز