يشكل الواقع الجيوسياسي الراهن لإثيوبيا كدولة حبيسة، والمكون السكاني الإثيوبي المنقسم عرقيا، المحددين الأساسيين لاستجابات النخب الرسمية الإثيوبية على الصعيدين الاستراتيجي والسياسي في عمليتي حماية الدولة وتدشين وزنها الإقليمي، وكذلك محاولة الحفاظ على بنيانها الوطني.
وفي هذا السياق، يكتسب كل من البحر الأحمر ونهر النيل معطيين رئيسيين للدولة الإثيوبية؛ لتحقيق أهدافها، فيما يتعلق بعملية بناء الدولة والحفاظ على استقرارها.
وفي ضوء هذا الواقع، فإنه في العادة يكون مطروحا على النخب السياسية الإثيوبية خيارين في صناعة السياسيات الإقليمية، إما علاقات صراعية يتم توظيفها داخليا لحشد التأييد للنظام السياسي، أو علاقات تعاونية أي صفر مشاكل، تساهم في عملية بناء الدولة ذاتها وعافيتها الداخلية عبر علاقات مستقرة مع محيطها الإقليمي.
ويمكن القول، إن النخب الإثيوبية بشكل عام قد اختارت النمط الصراعي تاريخيا، باستثناءات محدودة على مستوى الأشخاص، أو الفترات التاريخية، إذ أنه ومنذ تأسيس الدولة على يد الإمبرطور ملنيك الثاني، قبل قرن وعقدين تقريبا، قامت عملية بناء الدولة على أساس ضم الممالك المجاورة بالقوة المسلحة، وهو ما يفسر التنوع العرقي الكبير في الدولة التي تم تغيير اسمها من الحبشة أي الأجناس المتنوعة إلى اسمها الحالي إثيوبيا، أي الوجه البني المحروق طبقا لأصول الكلمة في اللغة اليونانية.
هذه المقدمة تبدو ضرورية في تقديرنا لفهم التوجهات الإثيوبية المؤثرة إقليميا راهنا، والتي قد تكون قائدة لعلاقات صراعية في منطقة القرن الإفريقي في المرحلة المقبلة، ربما تأخذ طابعا عسكريا، وسوف تكون مؤثرة بالضرورة على مصر ومصالحها في نطاقي البحر الأحمر ونهر النيل.
في سياق بناء الدولة اتجه رئيس الوزراء آبي أحمد، في مرحلة مبكرة من حكمه في تسويق صورة تصالحية داخليا، وتعاونية إقليميا بعقد مصالحات بدول التخوم المباشرة، خصوصا إرتيريا، وهو ما برر ربما حصوله على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠١٨، ولكن سرعان ما اتضح عدم استقرار رئيس الوزراء على النهجين التصالحي داخليا والتعاوني خارجيا، إذ اتجه على الصعيد الداخلي لبلورة مشروع للاندماج الوطني القسري (حزب الازدهار)، يفسر لنا حرب التيجراي الأهلية ٢٠-٢٢، وحرب قومية الأمهرة ضده المندلعة، منذ العام الماضي.
أما على المستوى الإقليمي، فقد اتجه نحو نمط صراعي مع مصر في إطار سد النهضة، ونمط تداخلي في الصومال، يهدد التراب الوطني الصومالي، وذلك دون الأخذ في الاعتبار المتغيرات الدولية، إزاء دولته ونظامه في هذه المرحلة.
ملامح التصعيد الإثيوبي مع مصر هو الملء الأحادي لمياه بحيرة سد النهضة، والتعنت التفاوضي بهذا الشأن، فضلا عن الدفع وراء عقد اجتماع، ربما خلال أكتوبر المقبل لتفعيل اتفاقية عنتيبي بعد تصديق جنوب السودان عليها، حيث تم إهدار فرصة الاتجاهات التعاونية المصرية إزاء أديس أبابا، ممثلة في اتفاق مارس ٢٠١٥، وما ترتب عليه من صبر مصر في المفاوضات الممتدة لعقد من الزمان.
أما في الصومال، فإن التصعيد الإثيوبي بات ممثلا في إعادة الانتشار العسكري في مطار واحد (لوق) في إقليم جيدو، في الجنوب الغربي من الصومال، كما زادت إثيوبيا مؤخرا عدد قواتها في مدينة دولو، ومطارها، حيث ما زالت هناك قوات إثيوبية موجودة في إطار عملية حفظ سلام (أميصوم)، والتي من المقرر أن تنتهي هذا العام، وهي التي تتمركز طبقا لموقع الحرة في 7 قواعد في مدن، تقع ضمن منطقة جيدو، وتقع 4 من هذه القواعد السبع في مطارات، أو بالقرب منها، وذلك في دولو، وجاربهاري، وبارديري، وبوردوبو. وفضلا عن الانتشار العسكري في الجنوب الصومالي، فإن إثيوبيا تحرص على نشر تقارير صحفية عن وجود إثيوبي بحري في أرض الصومال.
وقد يكون السؤال المطروح في هذه اللحظة هو، هل التصعيد العدواني الإِثيوبي على المستوى الإقليمي، يمكن أن يساهم في دعم نظام آبي أحمد، من حيث توفير الدعم الشعبوي الداخلي، على النمط الذي جرى في نموذج سد النهضة مع مصر، أم أن التصعيد مع الصومال هذه المرة قد يقود إلى تقويض نظام آبي أحمد، ويقلص فرصه في الاستمرار.
يبدو لنا، أن العامل الدولي سوف يكون حاسما في تقرير مصير رئيس الوزراء الإثيوبي، ذلك أن التصعيد الإثيوبي مع مصر قبل أكثر من عقد قد ارتبط باستمرار فاعلية المتغيرات المرتبطة بحوادث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، والتي ترتب عليها، أن تلعب إثيوبيا دورا في المعركة الأمريكية في الحرب على الإرهاب في شرق إفريقيا، وخصوصا أن مصر كانت قد انسحبت من الساحة الصومالية بضغوط أمريكية، وتم إفشال مبادرة الجامعة العربية؛ لإيجاد حل في الصومال.
وتحت هذه المظلة الأمريكية، خصوصا لعبت إثيوبيا دورا في التوقيع على اتفاق السلام الخاص بالسودان في عام 2005، والذي مهد لتأسيس دولة جنوب السودان. وأيضا في اتفاقية أروشا عام ٢٠٠٢، بتنزانيا والتي وضعت حدا لحرب الإبادة الجماعية بين كل من روندا وبروندي.
وقد تطور الأداء الإِثيوبي على مستوى القوى الناعمة، والفواعل غير الرسمية التي تطورت مجالات عمله؛ لتشمل في إفريقيا كل من: آليات الحوار وفض النزاعات المسلحة وصناديق الاستثمار والاستحواذ الجائر على الأراضي والمياه في دول حوض النيل، فضلا عن صناعة السياسات العامة على المستوى المحلي والإقليمي.
حيث ضمنت أديس أبابا موقعا مؤثرا في منظمة AFRICAN BILDING CAPACTY FAOUNDATION التي أنشأت عام 1991، في هراري بزيمبابوي، وهي الجهة الرئيسية المسئولة عن إنشاء مراكز التفكير الإفريقية في أنحاء القارة، وتقيم مؤتمرا سنويا لمراكز التفكير الإفريقية، ويشارك في عضويتها حاليا ٣٦ دولة إفريقية، ليس من بينهم مصر.
حاليا، وبسبب تعثر مشروع آبي أحمد، السياسي المنتج لاتساع حجم الصراعات المسلحة في إِثيوبيا، وتمرد القوميات الإِثيوبية على السلطة في أديس أبابا، فإن هناك إدراكا غربيا متزايدا بعدم صلاحية مشروع الاندماج الوطني القسري الذي يطرحه آبي أحمد، وأسفر عن ضحايا يقتربون من نصف مليون نسمة، طبقا لتقديرات أمريكية، وبات التقدير الغربي بشكل عام أن السياسيات الإقليمية الإثيوبية من شأنها تفجير القرن الإفريقي من ناحية، وتفجير الدولة ذاتها من ناحية أخرى.
وقد يكون من المؤشرات الهامة في هذا السياق، التقارب الأمريكي الكيني، واعتبار نيروبي نقطة تمركز جديدة لواشنطن في شرق إفريقيا، وكذلك التقارب الأمريكي المصري الذي يسمح بوجود عسكري مصري في الصومال، وذلك فضلا عن الاتجاهات الإعلامية الغربية المضادة لأحمد، خصوصا تقرير نشرته مجلة فورين بوليسي الأمريكية، ضد رئيس الوزراء الإثيوبي، والذي اقترب كاتبه من ممارسة أسلوب اغتيال الشخصية لآبي أحمد.
إجمالا، يبدو أنه على إثيوبيا في المرحلة المقبلة، أن تعيد التفكير في أسلوب التصعيد الصراعي على المستوى الإقليمي، ومدى تأثيره على مشروعاتها الداخلية، وحالة الاستقرار الداخلي، إذ أن القفز الي الإمام في صراعات إقليمية، لم يعد عاملا لإسناد النظام السياسي الإثيوبي، في ضوء الصراعات الداخلية المسلحة راهنا، فضلا عن المتغيرات الغربية إزاء النظام السياسي لآبي أحمد، وتبلور تحالفات إقليمية مؤثرة ضده في هذه المرحلة.