كتبت- إيمان رشدي
عقب معاناة لسنوات، عاشتها “أم حسن” مع طفلها البالغ من العمر عشر سنوات، والمصاب بأنيميا البحر المتوسط التي تجعله في حاجة لعملية نقل دم مرة كل خمسة عشر يوماُ، سمعت الأم، أن هناك علاجا تجريبيا لحالة ابنها.
قال الأطباء لها إن هذا العلاج الجديد له الكثير من المزايا، لكن ما شجعها على خوض التجربة، كانت مجانية هذا العلاج.
المجانية ذاتها كانت المحفز الأول لـ “ولاء”، وهو اسم مستعار لسيدة، تخضع لتجربة سريرية لعلاج السرطان، بمركز أبحاث التجارب الإكلينيكية في قسم علاج الأورام بالقصر العيني.
تقول ولاء، إنها شعرت بالفزع، عندما علمت بإصابتها بالسرطان قبل عامين، ليس فقط لما يمثله هذا المرض من رعب، بل لكونها لا تمتلك أي نوع من التأمين الطبي، يغطي تكلفة العلاج الباهظة.
وأثناء انتظارها لإتمام إجراءات العلاج على نفقة الدولة، علمت باختبار دواء جديد، فرحت لأنها فرصة للحصول على علاج مجاني، ووقعت على استمارة الموافقة المستنيرة، دون أن تهتم بقراءتها، حسبما روت.
تُرى ما هي “الموافقة المستنيرة”؟
الموافقة المستنيرة، هي الممارسة الأكثر أهمية في التجربة السريرية من أجل، تحقيق استقلالية المبحوث، وهي نص مكتوب، يقدم فيه المشاركون في البحث موافقتهم طواعية من خلال التوقيع، أو بصمة الإصبع (في حالات المشاركين الذين لا يستطيعون الكتابة) بعد شرح جميع جوانب البحث.
وإذا لم يتمكن المشاركون في البحث من إعطاء الموافقة، يمكن لممثلهم القانوني المعتمد تقديمها نيابة عنهم.
لم تهتم ولاء بقراءة الاستمارة، وخاضت التجربة السريرية، ولم تتحسن حالتها، وبات أملها الوحيد هو تجربة سريرية أخرى .
كيف باتت التجارب الإكلينيكية “فرصة علاج” للفقراء؟
يتزايد عدد السكان في مصر بسرعة، ويرتفع عدد المرضى الذين يمثلون بيئة خصبة؛ لجذب القائمين باختبارات الأدوية، فبحسب تقرير اللجنة القومية لعلاج الأورام بوزارة الصحة المصرية. تبين أنه بحلول عام 2025، سوف ترتفع معدلات الإصابة بالأورام السرطانية بمعدل 3 أضعاف حتى عام 2050.
وبالتوازي تتزايد أعداد مرضى الفشل الكلوي بكثافة، مقارنة بالنسب العالمية، مع ارتفاع مطرد في أسعار جلسات الغسيل الكلوي المحددة من قبل وزارة الصحة.
يأتي ذلك في ظل تنام مستمر للفقر، ونظام تأمين صحي لا يغطي نصف عدد السكان، الأمر الذي دفع ببعض من يعانون من تلك الأمراض الخطيرة الي المشاركة في التجارب السريرية، حتى لو كانت محفوفة بالمخاطر.
مصر الثانية إفريقيا في التجارب السريرية
تزداد التجارب السريرية في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، تحت رعاية الشركات متعددة الجنسيات.
وفي الثاني من هذا الشهر، استقبل نائب رئيس هيئة الدواء المصرية، وفدا رفيع المستوى من شركة IQVIA لوضع الخطة المستقبلية؛ لإجراء التجارب السريرية بمصر، ومناقشة الاستراتيجيات الخاصة بتوسيع نطاق التجارب السريرية، ودور هيئة الدواء المصرية في تقديم الدعم الفني لإجراء تلك التجارب.
وتحتل مصر بالفعل المركز الثاني، بعد جنوب إفريقيا في قائمة أكثر الدول الإفريقية استضافة للتجارب السريرية، ولعل السبب هو بنية مصر التحتية الجاذبة للبحث، إضافة لإقبال عدد كبير من المرضى على المشاركة في تلك التجارب، كونها منخفضة التكلفة بالنسبة لهم، كونهم لا يتحملون نفقات العلاج كحالة ولاء التي لم تتمكن من تغطية تكلفة علاجها؛ فلجأت لتجربة من هذا النوع.
عدد التجارب السريرية في مصر يقدر بحوالي 10,530 تجربة، وفقا لتقدير موقع “ClinicalTrials.gov”
اللائحة والتخوفات
الارتفاع في أعداد التجارب يقابله تخوف من الزيادة في فرص الإخلال بالمعايير الأخلاقية الواجب اتباعها، ما دعا إلى إصدار اللائحة التنفيذية لقانون تنظيم البحوث الطبية الإكلينيكية في 12 مارس 2022، بعد أكثر من عام من صدور القانون، بهدف حماية حقوق المرضى والمتطوعين في التجارب السريرية التي تتم في أي مرفق صحي أو بحثي داخل مصر.
ولكن مشكلات التجارب السريرية لا تكمن في القانون أو اللائحة، قدر ما تكمن في قلة عدد المتطوعين المدركين لشروط وأهمية هذه التجارب.
وكذا في انخفاض المراكز الطبية التي تشارك في إجرائها، حيث أنشأ اول مركز بحثي مملوك للقطاع الخاص، يعمل في الأبحاث التعاقدية؛ لإعداد البحوث السريرية بمختلف مراحلها الإكلينيكية، وما قبل الإكلينيكية باستثمار هولندي عام 2022.
ويحذر الدكتور علاء غنام- خبير السياسات الصحية ومدير برنامج الحق في الصحة بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية– من المراكز المملوكة للقطاعات الخاصة، ويعلل ذلك بعدم إمكانية التأكد من نزاهتها.
كما شدد على ضرورة مراجعة أي تعاقدات، تتم مع شركات أجنبية، تخص هذه التجارب؛ نظرا لخطورتها، ولا يتم إجراء أي تجربة، إلا بعد إصدار شهادة صلاحية للشركة من قبل أكاديمية البحث العلمي؛ كونها الجهة المنوط بها ذلك، ويكرر التحذير من أي تعاقد مع شركات عليها علامات استفهام.
ويلفت د. علاء إلى أهمية “الموافقة المستنيرة”؛ كونها العامل الضامن لحق المريض.
القانون المصري والنصوص الدولية
من أجل “التوازن بين تأسيس التجارب الطبية واحترام حقوق الإنسان” جاء إعلان هلسنكي الصادر عام 1964 مستهدفا، وواضعا معيار رسمي لأخلاقيات البحث العلمي.
ونشرته الجمعية الطبية الأمريكية بغرض حماية العناصر البشرية المشاركة في التجارب السريرية، وعلية يلتزم المساهمون في التجارب الإكلينيكية، بالمبادئ التوجيهية العالمية الواردة به.
وجاء البند رقم 22 من الإعلان، مؤكدا على أنه يجب أن يحتوي البروتوكول على بيان للاعتبارات الأخلاقية المعنية، وأن يتضمن معلومات حول التمويل، والجهات الراعية، والانتماء المؤسسي، وتضارب المصالح المحتمل، وحوافز المشاركين.
وكفل إعلان هلسنكي، حق من تجري عليهم التجربة من خلال بيان المعلومات المتعلقة بأحكام علاج، أو تعويض الأشخاص الذين تضرروا؛ نتيجة المشاركة في الدراسة البحثية.
ووضع مجلس المنظمات الدولية للعلوم الطبية عددا من المبادئ التوجيهية الموثوق بها في مجال المعايير الأخلاقية العالمية الخاصة بالبحث العلمي على البشر، والتي تتخذ تشريعات الاتحاد الأوروبي فيما يخص تجاربها الإكلينيكية من الإعلان المشار إليه مسبقا والمبادئ التي يتضمنها مرجعية لها.
في مصر، يقرر النص الدستوري بموجب المادة 60 من الدستور المصري 2019، أن “لجسد الإنسان حرمة، والاعتداء عليه، أو تشويهه، أو التمثيل به جريمة يعاقب عليها القانون، ويحظر الإتجار بأعضائه، ولا يجوز إجراء أية تجربة طبية، أو علمية عليه بغير رضاه الحر الموثق، ووفقا للأسس المستقرة في مجال العلوم الطبية، على النحو الذي ينظمه القانون”.
ولغرض حماية الأفراد من التجاوزات التي قد تؤدي إلى انتهاك الكيــان الجـسدي تحت مسمى التجارب الطبية الإكلينيكية، صدر قانون التجارب الطبية الإكلينيكية رقم 214 لسنة 2020. بموجبه، أصبح هناك تشريع كامل ينظم كيفية إجراء التجارب الطبية، ويضع الضوابط القانونية؛ لإجرائها ويحدد إجراءات ومراحل إتمامها، ويعد أول إطار تشريعي موحد لإدارة ملف التجارب السريرية في مصر.
جاء القانون مؤكدا على الاختيار العادل للمشاركين في التجربة لضمان عدم تحمل غير القادرين على العلاج، والضعفاء عبء التجارب المحفوفة بالمخاطر بشكل غير عادل.
وأوضح القانون في مادته رقم 3 الضمانات التي تشمل الحصول على “موافقة مستنيرة” للمشاركة، سواء من الفرد أو ولي أمره القانوني.
وبالعودة لنقطة الحصول على موافقة مستنيرة، التي أوجبها القانون وشدد د. علاء غنام على أهميتها، نجد أن القانون يفتقر إلى العديد من التفاصيل المتعلقة بها، مثل غرض البحث، وانتماءات الباحث الرئيسي ومصدر التمويل، وتضارب المصالح بين الجهات الثلاثة الرقابية.
ولا يوضح القانون تدابير الشفافية والرقابة بين أعضاء المجلس الأعلى، وهيئة الدواء المصرية، ولجان المراجعة المؤسسية، كما لم يوضح الحق في الانسحاب من البحث، واكتفى بألفاظ عامة (إعلامه بجميع جوانب البحث). ولم يتم ذكر بدائل الموافقة المكتوبة في القانون، والتي تعد هامة، وحاسمة في الحالات التي قد تشكل فيها الموافقة المكتوبة مخاطر على المشاركين في البحث.
إلا أن المادة الثالثة من قانون التجارب الإكلينيكية جاءت متضمنة أحكامًا صريحة لحماية الفئات الضعيفة التي تستحق حماية إضافية- كمعدومي أو ناقصي الأهلية، وأصحاب الحالات الصحية المتدنية- لإعطاء موافقة صالحة، ومستنيرة، إلا أنه غفلَ غيرهم، ممن ينطبق عليهم نفس الوصف، وهم شديدو الفقر، وغير المتعلمين، كما لو يوضح موقف السجناء والأطفال.
إفريقيا عامة
مشكلة التجارب السريرية لا تخص بلدا بعينه، إذ تفتقر التجارب في الدول الإفريقية بوجه عام للتمويل الجيد، وتُنشر في مجلات ذات معامل تأثير ضعيفة، ولا يمكن الحكم على جودتها؛ نظرًا لغياب التفاصيل الخاصة بالتجارب، أو غياب التوزيع الجيد للمرضى وفق ضوابط “التجربة السريرية العشوائية” التي يتم فيها توزيع المرضى على مجموعتين. وكلها عوامل تؤدي إلى تراجع فرص الخروج بنتائج علاجية فعالة.
بالتأكيد، فإن التطور لا يأتي إلا بالتجريب، وخصوصًا في مجال الطب والصناعات الدوائية، وإمكانية فتح الباب واسعا؛ للبدء في تصنيع الأدوية الهامة كأدوية الأورام، وغيرها بشكل محلي، ولكن ذلك لن يتحقق بغياب الإرادة الواعية، وتحويل المرضى إلى أرقام.