ظل المجتمع المصري معروفًا بثلاث طبقات أساسية على مدار تاريخه، ما بين الطبقة المتوسطة والفقيرة والثرية، قبل أن تتغير تلك التركيبة مع سياسات الإصلاح الاقتصادي، التي أنتجت طبقة جديدة للبرجوازيين الذين استفادوا من التقلبات العنيفة لسعر الصرف، واحتكار السلع بقصد المضاربة على أسعارها.

اختفت طبقة البرجوازيين التقليديين في المجتمع التي تعتبر الآلة الاقتصادية والصناعية، وتضم أصحاب الحرف والمهن بمختلف صنوفها؛ ليحل محلها برجوازية جديدة، تعمل في أنشطة هامشية مضاربية، جنت من ورائها أموالاً مستجدة، تؤهلها لملامسة طبقة الأغنياء دون الانضمام إليها.

لا يحتاج البحث عن اختلال الطبقات بمصر الكثير من الجهد لرصده، تفضحه السير في شوارع القاهرة بموجة مستجدة من سيارات الأثرياء مثل، أستون مارتن الحديثة التي يبلغ سعرها 4.750 ملايين جنيه، ولامبورجيني ريفويلتو التي يبلغ سعرها 31 مليون جنيه، وبوجاتي التي تناهز 100 مليون جنيه، تجاور في الوقت ذاته سيارات الطبقات المتوسطة من موديلات فيات 128، وإكسيل ولادا التي تتراوح بين 50 و150 ألف جنيه).

طبقات للأعلى وأخرى للأسفل

بحسب الدراسات، زادت نسبة الفقر زادت من 16,7% في ١٩٩٩/٢٠٠٠ إلى 25,3% في ٢٠١٠ /٢٠١١ إلى 27,8٪ وفقًا لتقارير جهاز الإحصاء والتعبئة لعام 2015، بما يُشير فعلا إلى تعرض عدد أكبر من الأسر المنتمية إلى الطبقة المتوسطة للوقوع في دائرة الفقر، ومن المتوقع أن ترتفع تلك النسبة بشكل أكبر في ضوء السياسات الاقتصادية الأخيرة التي تبنتها الحكومة، خاصةً إذا لم تصاحبها برامج حماية اجتماعية ملائمة لمساندة الطبقة المتوسطة.

حجم الطبقة المتوسطة في مصر قد تقلّص من 48% من مجموع السكان في عام 2000، إلى 44% في عام 2011، وترافق هذا التراجع مع ارتفاع في معدل الفقر، وذلك على الرغم من الارتفاع النسبي لمعدلات النمو الاقتصادي في تلك الفترة، ويعطي ذلك مؤشرًا قويًّا على مزيد من تراجع الطبقة المتوسطة في الفترة الحالية مع تردي الأوضاع الاقتصادية بشكل أكبر، مما كان قبل الثورة.

في المقابل، جاءت مصر في المركز الثاني إفريقيا في قائمة الأثرياء بـ 15,600 مليونير، و52 سنتي مليونير (100 مليون دولار فأعلى) بنسبة نمو يناهز 22%، لكن مؤسسة “هينلي أند بارتنرز” حول الثروات في إفريقيا لعام 2022، قالت إن عدد المليونيرات بمصر يتجاوز نحو 17 ألفًا، يمتلكون أكثر من مليون دولار (50 مليون جنيه مصري تقريبًا).

من المستفيد من الأزمة الاقتصادية في مصر؟

مع عجز الحكومة عن وضع آليات لضبط السوق بسب سعيها لإظهار الدعم الكامل لـ “السوق الحرة”، استطاعت طبقة من التجار، أن تحقق أرباحا خيالية من تعطيش السوق ورفع الأسعار وإعادة البيع، حتى أن جمعية مواطنين ضد الغلاء قالت، إن الزيت والسكر والأرز مخزن قيمته كالذهب والدولار.

على سبيل المثال، سعر زجاجة الزيت كان 64 جنيها في سبتمبر 2023، وارتفع إلى 99 جنيها في مايو 2024 بفارق 35 جنيهًا، أي أن التاجر الذي احتكر ألف زجاجة زيت فقط، حقق مكسبًا 35 ألف جنيه.

الأرز أيضًا كانت أسعار في سبتمبر 2023 نحو 28 جنيها للكيلو، وارتفع في مايو 2024 إلى 34 جنيها، أي قرابة 7 جنيهات، بما يعني أن التاجر الذي خزن طن واحد من الأرز، حقق مكسبًا 7 آلاف جنيه 8 أشهر، كما ارتفع السكر من مستوى 28 جنيها في سبتمبر 2023، إلى 42 جنيها في مارس 2024، بربحية تصل إلى 14 جنيها في الكيلو، بما يعادل 14 ألاف جنيه في الطن.

المتعاملون بالدولار.. أرباح من الهواء

من بين أكثر الفئات التي استفادت من اختلال سعر الصرف الذين يتلقون رواتبهم بالدولار بمصر، وفي مقدمتهم العاملين بالبلوجرز والتيك توكر ومحتوى اليوتيوب، وغيرهم، وهي فئة يظهر ثرائها المستجد، فيما ينشرونه بأنفسهم من مقاطع على شبكة الانترنت، تتعلق بشرائهم سيارات وعقارات بمبالغ ضخمة.

استفادة تلك الفئات، كانت مباشرة من ارتفاع الدولار من مستوى 7 جنيهات إلى 47 جنيها في 10 سنوات فقط، ما يعني أن الأجر الذي يبلغ ألف دولار شهريا، تحول من 7 آلاف جنيه إلى 47 ألف جنيه، فضلاً عن أن تلك الفئة استفادت من فترات انتعاش السوق السوداء، وارتفع قيمة الألف دولار حينها لـ 60 ألف جنيه مصري.

استطاعت أرباح تطبيقات الإنترنت في تحويل بسطاء إلى عالم الأغنياء فجأة، مثل بائع سمك، أصبح حاليًا أشهر تيك توكرز بمصر بسيارات وفيلات فاخرة، وبعضهم ترك وظائف مرموقة من أجل الأرباح التي وصلت لدى البعض لسيارات بقيمة 20 مليون جنيه، وساعات ألماظ، وبعضهم كشف عن تلقيه مكسبا، يصل إلى 6 آلاف يورو في يوم واحد ببعض الأوقات.

ويصل عدد “مستخدمى” تيك توك بمصر مطلع 2024، نحو 32.9 مليون مستخدم، مقابل 23.7 مليون العام السابق، وغالبيتهم بهدف تحقيق مكسب فوفق توزيع إعلانات «تيك توك»، وصلت العائد يقرب من 40.2% من قاعدة المستخدمين.

مستفيدو الأنشطة غير المشروعة

يقول الدكتورة رمزي الجرم، الخبير الاقتصادي، إن أصحاب المكاسب الفاسدة، من تُجار الأنشطة المُجرمة قانوناً؛ استطاعوا تقديم طبقة جديدة للمجتمع، ممن كانوا يمتلكون بعض الأصول المالية أو العقارية، حتى وإن كانت قليلة.

يقصد الجرم فئة السماسرة في الذهب والعقار، وكذلك عمليات غسيل الأموال التي وجدت في العقار فرصة لاستثمار أموالهم بعيدا عن اشتراطات تحديد مصدر الأموال التي تطلبها البنوك، فبعض الشقق السكنية تضاعفت أسعارها خلال السنوات الخمس الأخيرة.

أضاف أن الفقاعة التي أحدثتها طبقة الفاسدين في أسعار العقارات، أدت إلى ارتفاعات متصاعدة ومُبالغ فيها في أسعار العقارات والأصول المالية، مما ترتب عليه سحب الطبقة الجديدة، لتطفو هي الأخرى على السطح، ممن كان يَمتلك أي أصل مالي او عقاري في تلك الفترة.

يضيف أن تلك الظاهرة أدت إلى ظهور طبقة عريضة، لا يُستهان بها، فرضت على الواقع؛ أسعار مُبالغ فيها لتلك العقارات، وأصبحت واقعا لا يمكن تجاهله، ويفرض نفسه بقوة على الكافة، للتعامل معه بشكل إجباري.

لا تخلو جميع المدن المصرية، حاليًا، من أشخاص يرتدون الملابس الريفية أو الصعيدية، يجلسون أمام عقارات ضخمة على كرسي قديم، يعتقد البعض في البداية، أنهم حراس للعقار أو بوابين، لكن يتبين، أنهم يملكون عدة أبراج.

استطاع البعض أيضًا، أن يتحول من فئة على أراض بأسعار مخفضة، و”سقعوها” لسنوات، حتى ارتفعت الأسعار، وبعضهم حصل على مقدمات بملايين الجنيهات من الحاجزين، ولم يستخدموها في البناء، بل استثمرها في شهادات بنكية، أو هذب بحثا عن العائد المرتفع، على أن يتم التسليم “حين ميسرة”.

تجار تزيد ثرواتهم أثناء النوم

خلال السنوات العشر الأخيرة، حقق تجار الذهب الكبار ثروات ضخمة مع اختلال تسعير الدولار، ليعمل بعضهم في السوق السوداء للعملة، وحتى من فضل أن يسير في الطريق السليم، كانت أرباحه ضخمة مع استحداث “الدولار الذهبي” الذي كانت أسعاره تفوق دولار السوق السوداء بمراحل.

لمعرفة مكاسب تجار الذهب الكبار، نضرب مثالاً بيوم 5 مارس 2024، حينها كان سعر جرام الذهب عيار 21 نحو 2750 جنيها، وفي اليوم الثاني مع قرار البنك المركزي بتعويم الجنيه، 3200 جنيه، أي أن تاجر الذهب الذي كان لديه مخزون كيلو واحد من مشغولات ذهب 21 ربح في 24 ساعة فقط 450 ألف جنيه.

لا يختلف الحال كثيرًا بالنسبة لكبار تجار السجائر الذين انتفعوا على مدار السنوات الأخيرة من فترات ندرة المنتج، وتخفيض السوق، وبعضهم كان يُورد العلبة بسعر أعلى من قيمتها الحقيقية بـ 10 جنيهات، وبعضهم حقق الملايين كفارق سعر، وفق الضبطيات التي شنتها الشرطة، والتي أسفرت إحداها عن ضبط 105 آلاف عبوة بحوزة تاجر واحد في القطامية.

أين ذهبت الطبقات التقليدية؟

ظلت الطبقة العُليا الأشد ثراء في مصر التي تقدر بقرابة المليون شخص على حالها في قادرة على الاستفادة من أي أزمات، كما ظلت الطبقات الأشد الفقيرة أيضًا على حالها، باعتبارها تعيش على المعونات، ولديها القدرة على التكيف بالعمل في الأنشطة الهامشية.

في المقابل، كانت الطبقة المتوسطة هي الأكثر معاناة، فهي الأكثر تضررا من الأزمات الاقتصادية، وتبعاتها من تضخم أسعار السلع والخدمات وثبات الرواتب في محها، خاصة أن تلك الطبقة هي الأكثر التزاما مع خصم الضرائب عليها من المنبع، باعتبارها تضم ذوي الأجر الثابت، والموظفين بمختلف صنوفهم.

تلاشي الطبقة المتوسطة من شأنه، أن يضر المسار الاقتصادي بوجه عام وفقا لمصطفى عادل، الخبير الاقتصادي، الذي يستدل لدراسات معهد كوفمان، وهي مؤسسة عالمية متخصصة في أبحاث الريادة على مستوى الاقتصاد الكلي والمصغّر، فـ 99% من المستثمرين المبدعين، يأتون من الطبقة المتوسطة، و1 فقط لهم أصول فقيرة أو غنية للغاية.

يضيف عادل، أن تعريف الطبقات في الاقتصادات النامية تتضمن الفقراء الذين يعيشون بأقل من دولارين في اليوم، والطبقة منخفضة الدخل التي تعيش بين 2 و10 دولار، والمتوسطة التي تعيش بين 10 و20 دولار يوميا، أما مرتفعو الدخل فهم الذين يعيشون يوميا بـ 50 دولارًا فأعلى.