عقب الارتفاع الشديد في أسعار “البانيه”، كان على فاطمة أن تجد حلا لإطعام أبنائها، فما كان منها إلا تقليل الكمية التي تشتريها لأقل من الربع، وطحنها مع البطاطس؛ لتحصل على “بانيه كداب”، تمثل النشويات ثلاثة أرباعه، وتضعه في الخبزــ نشويات أخرى ــ  صانعة منه “ساندويتشات” لأبنائها.

ولم تتوقف حيل فاطمة عند البانيه، بل تعدتها للبيض، باتت تضيف له الدقيق من أجل، زيادة حجمه مع ارتفاع أسعار البيض لمستوى 190 جنيها للكرتونة (30 بيضة)، غير عابئة بالأضرار الصحية التي تنجم عن ذلك الأمر، فما يهمها هو شعور أبنائها الثلاثة بالشبع، والاقتصاد في ميزانية المنزل الضيقة.

فاطمة ليست حالة فريدة، بل عنوان على مرحلة، باتت النشويات فيها حلا أقل كلفة مع الارتفاع المطرد في أسعار البروتين بنوعيه النباتي والحيواني.

فأمام إحدى المدارس الحكومية، وبعد نهاية أول يوم دراسي، يسارع الطلاب للحاق بمحل شعبي لبيع الكشري بمصر القديمة؛ لطلب كميات منه في كيس بلاستيكي؛ لتوفير ثمن العلبة البلاستيك، وبسعر يكاد يكون ثابت 7 جنيهات للكيس الواحد، بينما يتجنب البائع وضع المكونات غالية الثمن في الكيس مثل، البصل والعدس، ويكتفي فقط بأرز ومكرونة وقدر بسيط من الصلصة.

مجموع أخرى من التلاميذ، كررت الأمر ذاته مع كيس رقائق البطاطس بوضعه في رغيف خبز للحصول على وجبة، لا يتجاوز سعرها 7 جنيهات، لكنها تكاد تكون معدومة الفائدة الغذائية، وكل مكوناتها من النشويات والدهون.

ما تفعله فاطمة أو هؤلاء الطلاب نتيجة طبيعية لضيق الخيارات المتاحة أمامهم مع موجة ارتفاع بالأسعار لغالبية مكونات أبسط الوجبات اليومية “القرديحي”، وهي لفظة شعبية للوجبة الغذائية التي تفتقر للبروتين الحيواني بكافة أشكاله، سواء لحوم حمراء أو بيضاء أو أسماك أو حتى بيض.

قائمة الأسعار في السوق، حاليًا، تضيق الخناق على خيارات الطبقة المتوسطة والفقيرة؛ فغالبية الخضروات فوق مستوى الـ 20 جنيها، والبطاطس والكوسة بسعر، يتراوح بين 25 و30 جنيها حسب المنطقة، فيما يبلغ سعر الفول 57 جنيها للكيلو والعدس 66 جنيها، والأجبان البيضاء التقليدية نحو 120 جنيًها للكيلو، إن لم تكن تتجاوز ذلك.

وأصبحت الطماطم “نجمة الشباك” بسوق الخضار حاليًا، بعدما ارتفعت لمستوى قياسي، يتراوح بين 35 و40 جنيهًا في الأسواق حالًيا بزيادة %35.52 عن الشهر السابق، بينما يتم بيع الأنواع السيئة (التي تتضمن ثقوبًا) منها بسعر 20 جنيهًا للكيلو.

في المقابل، ارتفع البروتين الحيواني بكل صوره، فقفزت أسعار الدواجن البيضاء لمستوى ما بين 87 و90 جنيهًا، للكيلو حسب المنطقة، واللحوم إلى مستوى 365 جنيهًا للكندوز، و420 جنيهًا للبتلو، بينما واصل البيض التحليق إلى مستوى 6.5 جنيهات للبيضة الواحدة.

النشويات.. بديل أساسي

وفقا لمنظمة الصحة العالمية، تحتل مصر الترتيب الـ 17 من بين أكثر 20 دولة على مستوى العالم، يصاب أطفالها  بالسمنة المفرطة، بينما قال الدكتور خالد عبد الغفار وزير الصحة والسكان، إن 40% من البالغين في مصر مصابون بالسمنة.

وباتت أرخص الوجبات في مصر، حاليًا، هي المخبوزات مثل “القُرص” الشعبية التي تتكون من الزيوت والدقيق فقط بسعر 5 جنيهات للواحدة، والفطير التقليدي الذي يباع بـ 10 جنيهات فأكثر، وهو زيوت مُهدرَجة مع دقيق وسكر، ويسبب تناوُل الأطعمة ذات السعرات الحرارية العالية والمخبوزات والوجبات الخفيفة، زيادة الوزن، فكل 140 جراما من رقائق البطاطس، تتضمن نحو 50 كالوري “وحدة لقياس الدهون”.

بعض خبراء التغذية في مصر يربطون بين السمنة وتغير نمط الحياة، وليس طبيعة الغذاء، مع الجلوس لفترات طويلة أمام أجهزة ووسائل الاتصالات والتكنولوجيا، وعدم ممارسة الأنشطة التي كانت تساعد على حرق الدهون مثل المشي والجري.

 ووفقًا للدراسات الدولية، فإن ثبات أسعار الأغذية المدعومة من الدولة وزيادة باقي المواد الغذائية في الأسواق بشكل سريع، خصوصًا خلال الأزمات الاقتصادية، دفعت الأسر إلى تحويل نمطها الغذائي نحو استهلاك المزيد من الأطعمة الغنية بالسعرات الحرارية والفقيرة بالمغذيات، ومع بقاء أسعار المواد الغذائية في الأسواق المفتوحة مرتفعة، تميل الأسر إلى اتباع أنماط غذائية غير متوازنة.

بحسب تقرير لمجلة “هارفارد إنترناشيونال ريفيو“، أجبر التضخم الغذائي الذي تجاوز 60% المواطنين على التكيف؛ فالأسر تعطي الأولوية للشعور بالشبع؛ بدلاً من تلبية الاحتياجات الغذائية.

 ويركز المصريون على الشبع مع انخفاض التكلفة، ويختارون وجبات منخفضة التكلفة وعالية السعرات الحرارية، وانتقلت الأنظمة الغذائية من الأرز والخضروات والبقول والتوابل إلى الكربوهيدرات والأطباق الغنية بالسكر.

ويلعب التفاوت الاجتماعي والاقتصادي دورًا، فالمصريون ذوو التعليم قبل الجامعي (أي الحاصلون على دبلوم المدرسة الثانوية أو ما دون ذلك) بجانب الطبقات الأضعف ماليًا، هم أكثر عرضة للإصابة بالسمنة بثلاث مرات، بحسب دراسة هارفارد إنترناشيونال ريفيو.

الطعام الغذائي مكلف

الضغط الاقتصادي يلعب دورا وراء إقبال المصريين على النشويات، فطبق السلطة، وهو أبسط أنواع الأغذية الصحية، لعائلة من خمسة أفراد على سبيل المثال، يحتاج إلى ما لا يقل عن 30 جنيهًا مع ارتفاع أسعار الخضروات بأنواعها، حتى أن بعض المطاعم جعلت طبق السلطة حاليًا بمقابل، بعدما كانت مجانية مع  الوجبة.

يقول الدكتور نادر نور الدين، مستشار وزير التموين سابقًا، إن هناك حالة تعامل غريبة مع ارتفاع الأسعار بمصر فقبل سنوات، عندما يتجاوز سعر كيلو الطماطم أو البطاطس عشرة جنيهات، “تقوم الدنيا ولا تقعد”، وتنشط الوزارات المعنية ومعها الاجهزة الرقابية ويشترون من أسواق الجملة، ويعرضون في المجمعات التعاونية بخمسة جنيهات فقط، ويتم مصادرة السلع المحجوبة عن الأسواق بسبب الجشع؛ فيزيد الرضا العام ويشعر الجميع، أن الحكومة مهمومة بالمواطن.

وربما تفسر تصريحات وزير التموين والتجارة الداخلية السابق عليّ المصيلحي، تلك النقطة، حينما رفض مطالب بعض نواب البرلمان بفرض تسعيرة جبرية على السلع الأساسية، قائلاً: “الحكومة لا تتدخل في تسعير السلع، ولكن تقوم فقط بتسعير السلع التموينية التي يتم صرفها للمواطنين”، والسلع الحرة تخضع لرقابة جهاز حماية المنافسة، وجهاز حماية المستهلك، اللذان يقومان بدور كبير لضبط السوق.

يتساءل نور الدين: “لماذا توقف هذا الآن؟، وهل تغول التجار فبعد الإعلان عن القبض على كبار تجار البيض؛ لأن الكرتونة وصلت ١٨٠ جنيهًا، فإذا بالتجار ينتقمون، ويرفعونها لـ ٢٠٠ جنيه، ويقول أحدهم في التلفزيون، إن لا أحد يستطيع الاقتراب أو المساس بهم. أين الرقابة؟

و كانت أنباء قد ترددت عن إحالة مجلس إدارة جهاز حماية المنافسة لـ 21 من كبار منتجي بيض المائدة للنيابة، لكن أحمد نبيل، رئيس شعبة البيض باتحاد منتجي الدواجن،  نفاها قائلاً: «حتى الآن لم يأت إلينا أي أمر رسمي حول هذا الأمر».

وشدد نور الدين، على أن الأسواق الحرة والعرض والطلب لا تعني الفوضى، ولا تعني انعدام الرقابة أو عدم تدخل الدولة وقت اللزوم، إن كان مازال يهم البعض مقياس الرضا العام للمواطنين عن الأداء، في زمن تراجع الدخول وليس زيادتها.