شاركت هذا الأسبوع في ندوة عبر تطبيق “زوم” حول مستقبل اليمين المتطرف مع التركيز على أوروبا، دون أن يمنع ذلك قيام أحد الباحثين الأوربيين بتقديم مقارنة بين التيارات الإسلامية المتشددة في العالمين العربي والإسلامي مع تيارات اليمين المتطرف في أوروبا، وجرى نقاش واسع حول طبيعة هذه التيارات ومستقبلها، وهل ستصل إلى حكم القارة العجوز وتحديدا بعد ثلاث سنوات إلى رئاسة فرنسا؟ وهل ستحصل في ألمانيا في الانتخابات التشريعية القادمة على أغلبية برلمانية؟

وقد جرت مقارنة بخصوص طريقة تعامل المجتمع والنخبة الفرنسية منذ 22 عاما، مع اليمين المتطرف مقارنة بالوضع الحالي، فقد وجد الفرنسيون، أن جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة في 2002، يتنافس فيها الرئيس الديجولي جاك شيراك، ومرشح اليمين المتطرف جان ماري لوبان، وهو مادفع فرنسا كلها يمينا ويسارا للاصطفاف خلف شيراك، واعتبروا جميعا، أن مبادئ الجمهورية مهددة لمجرد، أن مرشح اليمين المتطرف وصل إلى جولة الإعادة. وقد فاز شيراك في هذه الانتخابات بنسبة 82%، وحقق انتصارا ساحقا.

حالة “الإجماع الوطني” في مواجهة خطر اليمين المتطرف، أخذت صورا وأشكالا مختلفة وغير مسبوقة في تاريخ الانتخابات الفرنسية، وجرى التعامل مع هذا التيار، كأنه “تيار غازي” أو وافد على البلد، وخارج على التوافق الوطني العام، ويهدد القيم الأساسية التي تحكم النظام الدستوري في البلاد، حتى لو كان الحزب قانونيا وشرعيا.

وقد استهدفت الصحف ووسائل الإعلام بمختلف توجهاتها السياسية مرشح اليمين المتطرف بتحقيقات ومقالات قاسية، كما هاجمته غالبية فئات المجتمع، واصطفت النقابات بمختلف توجهاتها؛ لمواجهة خطر مرشح اليمين المتطرف، واعتبرته المنظمات الحقوقية والنسوية تهديدا للديمقراطية ومبادئ الجمهورية. 

الواضح ووفق رؤية الغالبية العظمى من الباحثين والخبراء السياسيين بل حتى كل من يتابع التطورات السياسية في أوروبا، أن التعامل مع اليمين المتطرف، باعتباره تهديدا وخطرا، يستلزم التعبئة المجتمعية والسياسية الشاملة، قد تغير، وأصبح هناك صعود في قوة هذه التيارات في معظم البلاد الأوروبية، وأن التعامل معها لم يعد عمليا، في صورة أن الجميع في مواجهة أقصي اليمين، إنما أصبح هناك تحول في التعامل مع هذه التيارات أخذ صورتين: الأولى أن خطاب أقصى اليمين أصبح على رأس قضية النقاش العام في أوروبا، وتبنته جزئيا أو بشكل مخفف كثير من القوى السياسية، وخاصة ما يتعلق بقضايا المهاجرين ومحاربة الهجرة غير الشرعية، ولم يعد في غالبيته الساحقة قائما على مواجهة خطاب اليمين المتطرف، إنما صار  متقبلا جوانب منه، ولا ينظر إليه باعتباره تهديدا، إنما كلون سياسي ضمن ألوان أخرى، أما الثانية فهي تبني بعض القوي السياسية اليمينية جزئيا أو بشكل مخفف خطاب أقصى اليمين، حتى باتت الصورة أن هناك خلافا بين اليمين بدرجاته المختلفة من جهة واليسار بدرجاته المختلفة من جهة أخرى.

أما السؤال الذي طرحه بعض الباحثين الأوربيين، وخاصة الفرنسيين؛ فيتعلق بالأسباب التي أدت إلي انتشار خطاب أقصى اليمين وقبوله لدى شرائح واسعة من المجتمعات الأوروبية، وهنا جرت الإشارة إلي عده أسباب أبرزها ثلاثة: الأول يتعلق بسلبيات العولمة وتأثيرها على شرائح اجتماعية متعددة، فكما عززت العولمة من فرص الفئات الأكثر تعليما ومهارة للاندماج في مؤسسات النظام العالمي من شركات كبرى، وبنوك وتوكيلات عالمية، فأنها همشت قطاعات اجتماعية أخرى هي بنت تعليم محلي أو محدود، وظلت مرتبطة بوظائف محلية، كان عائدها المالي أقل بكثير من العائد الذي يحصل عليه من يعملون في المؤسسات “المتعولمة”، كما تعرضت شرائح مجتمعية كثيرة للبطالة بسبب؛ أداء كثير من الشركات الكبرى ورغبتها في المنافسة العالمية، ولو على حساب تقليص متكرر لعمالتها، وأصبح هناك قطاع واسع ممن يصوتون لليمين المتطرف، هم أبناء طبقات شعبية نالوا تعليما متوسطا أو لم يستكملوا تعليمهم الجامعي، كما هو حال جوردان بارديلا ( Jordan Bardella) أحد قيادات حزب التجمع الوطني الذي كان مرشحا من قبل حزبه لرئاسة الحكومة، وترك دراسته الجماعية في قسم الجغرافيا “للتفرغ للعمل السياسي”، بجانب بالطبع من عانوا من البطالة وقسوتها. 

أما السبب الثاني؛ فيرجع لزيادة أعداد المهاجرين الأجانب في أوروبا، وخاصة من العرب والمسلمين، وهنا سنجد ربطا بين هذه الزيادة وارتفاع معدلات البطالة والجريمة، وتحويلها من قضية اجتماعية إلى قضية تهديد ثقافي وحضاري للمجتمعات الغربية، يمثله هؤلاء المهاجرون.

أما السبب الثالث، فهو يتعلق بالإرهاب وجماعات التطرف الإسلاموية، فيقينا كان هناك تأثير سلبي لقيام أفراد يحملون أسماء عربية او مسلمة بعمليات إرهابية في الغرب، أدى لوجود حالة خوف وتوجس من المسلمين، والربط بينهم وبين جماعات التطرف العنيف.

وقد اعتبر “المعتدلون” من تيارات أقصى اليمين ضمنا أو صراحة، أن الإسلام غير قابل للاندماج داخل المجتمعات الأوربية، واعتبر تيار آخر أكثر تشددا، إنه لا فرق بين الإسلام والمسلمين وبين الإسلاميين المتطرفين.

النقاش حول صعود اليمين المتطرف، أصبح حديث الساعة في أوروبا، وبات يشغل حيزا غير مسبوق في أنشطة مراكز الأبحاث والأطروحات العلمية والتقارير الصحفية والتلفزيونية، خاصة أن ما تضمره هذه التيارات، ربما أكثر مما تعلنه، لأنها لم تستهدف فقط المهاجرين غير النظاميين، إنما بات لديها موقف باطني معادٍ للمواطنين الأوروبيين ذوي الأصول المهاجرة، فإذا كان إغلاق الحدود في وجه الأجانب أو اللاجئين أو ترحيل المهاجرين غير النظاميين، هي كلها قرارات من حق أي دولة، أن تتخذها أي كان الرأي فيها، إلا أن المشكلة تكمن في أن هذه التيارات تعتبر ضمنا  وأحيانا صراحة، أن الأوروبيين من أصول غير غربية “وغير بيضاء” غير قابلين للاندماج بسبب؛ خلفيتهم الثقافية والدينية، وأن العنف متأصل فيهم، وهم بذلك يدفعون في اتجاه بناء مشروع سياسي مخالف للدساتير والقوانين التي بنت عليها أوروبا نهضتها وتقدمها. وهذا هو التحدي الكبير.