يعد من المبادئ الدستورية الأساسية، المرتبطة بمبادئ الحكم، خضوع الدولة للقانون، بما يعني خضوع سلطة الدولة للقوانين، وتقييد سلطاتها بما يتوافق مع النظم القانونية السائدة، وهو ما يعلي من شأن سيادة القانون، ويعد النسق الديمقراطي أهم القيم السياسية الحالية التي ينبغي أن يمثلها القانون، على اختلاف درجاته، وهو الأمر الذي يعني أن هناك علاقة متلازمة ما بين القانون والديمقراطية، لا تغني إحداهما عن الأخرى، فبقدر ما يكون النظام الحاكم ديمقراطيا في ممارسة وظيفته، بقدر ما يكون القانون الصادر عن السلطة التشريعية، بوصفها صاحبة التشريع الأساسي، أو كان القانون صادراً عن السلطة التنفيذية كتشريع فرعي، ديمقراطيا، وهو ما يعني أن يراعي النسق القانوني بشكل عام حقوق المواطنين وحرياتهم، وهذا ما يعبر عن مدى، ما يتمتع به النظام من وصف ديمقراطي من عدمه.
والنسق الديمقراطي للقانون، أو ديمقراطية القانون، لها مستويان لا بد من تحققهما، أولهما: النسق الشكلي لديمقراطية القانون، وهو ما يعني أن يصدر القانون من الهيئة المكلفة بإصداره، حسبما تقضي نصوص الدستور، ووفق السبل القانونية التي أقرها الدستور، ولكن بصورة أكثر عمقاً قد يبدو هناك مشكلة أو خلل في طريقة وضع الدستور ذاته، إذ لا بد وأن يكون الدستور قد وضع وفق الأسس المتعارف عليها في آليات وضعه، وأن يتضمن عدوان سلطة على غيرها، أو استحواذ سلطة على المقدرات الدستورية الطبيعية المقررة لغيرها من السلطات، وهو ما يؤمد على حقيقة عدالة الدستور، ولكن في أغلب النظم التي لا تتمتع بديمقراطية كاملة، فإن دساتيرها تحتوي على نصوص تؤسس لغلبة السلطة التنفيذية على غيرها من السلطات، بما يعني علو شأنها وتدخلها في أعمال باقي السلطات بشكل أو بآخر.وثانيهما: أن يصدر القانون في موضوعه بما يتوافق مع الأسس الدستورية في مدى تمتع المواطنين بحقوقهم وحرياتهم، ويكون القانون منظماً لممارسة تلك الحريات، وألا يكون هناك غلو في القيود أو الاشتراطات اللازمة لممارسة الحق أو الحرية.
أما في مجال التشريعات الجنائية (موضوعية كانت أم إجرائية) فإنه يجب أن يكون النظام التشريعي الجنائي متوافقاً بشكل أساسي مع تلك القواعد، كما أنه “ولخصوصية مجال التشريع” يجب أن يكون محملاً بكافة المبادئ المستقر عليها في ضمان الوصول إلى العدالة الجنائية، إجرائياً أو موضوعياً، كما يجب أن يكون مراعيا لكافة حقوق المواطنين في كافة مراحل التقاضي بداية من لحظة حدوث الجريمة والقبض على المتهمين، نهاية بصدور حكم نهائي بات فاصلاً في موضوع الخصومة الجنائية، بحيث ألا يغفل حقا من الحقوق المقررة للمتهم منذ لحظة القبض عليه. وقد دعمت المحكمة الدستورية ذلك المعنى في أكثر من حكم لها، فقد قالت في حكمها رقم 3 لسنة 10 قضائية دستورية، والصادر بتاريخ 2 / 1 / 1993: وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن القيود المبدئية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة– وإن كانت إجرائية في الأصل– إلا أن تطبيقها في مجال الدعوي الجنائية– وعلى امتداد حلقاتها– يؤثر بالضرورة في محصلتها النهائية، ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية توجبها الفطرة وتفرضها حقائق الأشياء، متى كان ذلك، وكان افتراض البراءة يمثل أصلا ثابتا، يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وليس بنوع العقوبة المقررة لها، وكان هذا الأصل يمتد إلى كل فرد، سواء أكان مشتبها فيه أم كان متهما، باعتبارها قاعدة أساسية في النظام الاتهامي، أقرتها الشرائع جميعها– لا لتكفل بموجبها الحماية للمذنبين– وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن كل فرد، إذا كانت التهمة الموجهة إلية قد أحاطتها الشبهات، بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة محل الاتهام الجنائي، متى كان ذلك، وكان الاتهام الجنائي– في ذاته– لا يزحزح أصل البراءة، بل يلازم الفرد، دوما ولا يزايله سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثناءها، وعلى امتداد حلقاتها، وأيا كان الزمن الذي تستغرقه إجراءاتها– فقد غدا دحض أصل البراءة ممتنعا بغير الأدلة التي تبلغ قوتها الإقناعية– في مجال ثبوت التهمة- مبلغ الجزم واليقين، بما لا يدع مجالا معقولا لشبهة انتفائها، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتا.
ولكن هل صادفت تلك القواعد تطابقاً مع مشروع قانون الإجراءات الجنائية المعروض حاليا على اللجنة التشريعية والدستورية بمجلس النواب؟ أم أن أمر ذلك القانون برمته قد تغافل العديد من القواعد أو النسق التي تعبر عن مدى، ما يتمتع به التشريع من وصف الديمقراطية؟ لم أجد رداً سوى السلب، بعد المطالعات العديدة لمشروع القانون، ولما دارت عليه رحاه، من أخذ ورد من اللجنة التشريعية، وبين ما أصدره نادي القضاة أو نقابة الصحفيين أو نقابة المحامين، وإن كان لزاماً علي وعلى أي متعاطٍ لمشروع القانون، أن يثمن من موقف نقابة الصحفيين، لما أبدته من موقف إيجابي تجاه ذلك القانون، بنقدها للمروع برمته، مطالبة بطرحه وعقد المزيد من جلسات الاستماع للعديد من الجهات المتخصصة، علاوة على ما أبداه نادي القضاة من اعتراضات، فيما يخص السلطة القضائية، أو أبدته نقابة المحامين بشكل أو بآخر، ذلك بخلاف العديد من الجهات أو المؤسسات الحقوقية، أو ما أبداه الكتاب والفقهاء اعتراضاً على ما جاء بنصوص هذا المشروع.
وهذا ما يعود بنا إلى كيفية أن يكون ذلك التشريع ديمقراطياً، بحسب كونه يستحوذ على كافة الإجراءات القانونية والقضائية أو الشرطية في مواجهة المواطنين، وبما يتضمنه من قواعد للحبس الاحتياطي، وشروطه ومددهن ولما يتضمنه كذلك من قواعد للمحكمات الجنائية.
وإذ أن تلك النظم في أغلبها قد طالتها أقلام الشراح والحقوقيين من شرح وتفنيد، إلا أن الدولة بوصفها صاحبة مشروع القانون، لم تستمتع إلا إلى النذر اليسر من أوجه الاعتراض على هذا المشروع. وبحسب الأصل الديمقراطي العام للنسق الأول لكيفية مناقشة ذلك المشروع، فإنه من الأوجب حرصا على حريات المواطنين وحقوقهم، أن يتم على المشروع على كافة الجهات والهيئات المتخصصة، بما ذلك المؤسسات الحقوقية، وأنه على الدولة أن تتأنى في عرض مشروع القانون، وأن تتريث إلى بداية دور الانعقاد الطبيعي لمجلس النواب، ولا يفوتها أن تطرحه على مجلس الشيوخ، وأن تعهد في صياغة مسودته الأولى إلى المتخصصين من أساتذة القانون. كما لا يفوت صناع ذلك التشريع، ما صادقت عليه مصر من اتفاقيات ومواثيق دولية حقوقية، كما يجب عليها أن تراجع موقف التشريعات الأكثر تقدما في مجال الحقوق والحريات، ولا تقف عند حد ترسيخ ما يعن لها من مبادئ قد تؤدي إلى مصادرة العديد من الحقوق والحريات، وهو ما قد يضعف ثقة المواطنين بالدولة ذاته.