التاسعة صباحًا… يزدحم مدخل فرع إحدى شركات التسفير للسعودية، بطابور من الساعين للحصول على تأشيرات للسفر، من يقف في الطابور لدقائق، يتجلى له بوضوح استمرار ظاهرة هجرة العقول المصرية للخارج، بحثا عن حياة أفضل، وهروبا من تحديات داخلية صعبة.
على صفحات التواصل الاجتماعي، يتكرر الأمر ذاته، خريجو كليات العلوم من تخصصات نادرة، يستفسرون عن فرص عمل بمهن متواضعة، ومهندسون يشكون من العمل في ظروف لا تناسب تخصصاتهم، ويلهثون وراء أي فرصة بالخليج، ومدرسون بالجامعات ينقبون عن أي برامج أجنبية على أمل النجاح والبقاء دون عودة.
تكشف الدراسات، أن نسبة هجرة العقول بلغت حوالي 60% من إجمالي المهاجرين بصفة دائمة للخارج في الفترة من 1990، وحتى 2019، وهي نسبة تضر بالتنمية والنمو الاقتصادي بكل المقاييس.
ويشير توزيع نسب المهاجرين، إلى أن أصحاب المؤهلات العليا يمثلون 92%، بينما بلغت المؤهلات فوق الجامعية (8% موزعة بين 3% دبلوم و4% ماجستير و1% دكتوراه).
بحسب التركيبة العلمية، فإن 50% من المهاجرين متخصصون في العلوم الإنسانية، و24% في العلوم الهندسية، و17% بالعلوم الطبية، و5% في العلوم الزراعية، و4% بالعلوم الأساسية.
وبالتالي، يمكن القول إن 50% من المهاجرين متخصصون في المجالات العلمية والتطبيقية مثل، الطب البشري والبيطري والصيدلة والأسنان والزراعة والهندسة والعلوم، وهي مهن تقوم بدور حيوي في التنمية.
الخسائر الاقتصادية لهجرة العقول
لا توجد دراسات حديثة عن إجمالي عدد الكفاءات العلمية المهاجرة للخارج، وكان آخرها دراسة مصرية نشرت نتائجها بتاريخ 2005، قالت إن عدد المهاجرين المصريين بدول الاتحاد الأوروبي وأمريكا وكندا وأستراليا، يبلغ 720 ألف مهاجر، بينهم 450 ألفا من أصحاب الكفاءات العلمية في المجالات المختلفة.
وتتضمن الخسائر بحسب اقتصاديين، ما يتم إنفاقه على تخصصات بعينها من أجل سد الاحتياج إليها بالسوق المحلية، لكنها تفضل الهروب للخارج، خاصة الأطباء، إذ استقال ١١ ألفًا و٥٣٦ طبيبا من العمل الحكومي خلال ٣ سنوات، وفق بيان رسمي لنقابة الأطباء.
هروب الأطباء
ويبلغ عدد الأطباء البشريين المرخص لهم بمزاولة مهنة الطب حتى آخر عام 2018 نحو 212 ألفا، و835 طبيبا، 82 ألف طبيب منهم يعملون في وزارة الصحة والمستشفيات الجامعية الحكومية والخاصة، وجامعة الأزهر والمستشفيات الشرطية، تقريبًا بنسبة 38%، وطبقًا لهذا العدد يكون معدل الأطباء 8.6% أطباء لكل 10 آلاف مواطن، مقابل 23 طبيبا لكل 10 آلاف مواطن عالميًا.
رغم زيادة أعداد المقبولين بكليات الطب وإنشاء كليات طب جديدة حكومية، مثل العريش والوادي الجديد و كليات أخرى خاصة، إلا أن الإحصائيات تؤكد أن الوضع ما زال سيئًا.
وشهدت الأعوام الأخيرة تزايد عزوف الأطباء عن العمل بالقطاع الحكومي، وسعيهم للهجرة خارج مصرـ، فعدد الأطباء الذين تقدموا باستقالاتهم خلال 2016 من العمل الحكومي المصري، وحصلوا على شهادة طبيب حر 1044 طبيبا، وفي 2017 ارتفع العدد لـ 2549 طبيبا، وعام 2018 إلى 2612 طبيبا.
واصل العدد الارتفاع في 2019؛ ليشهد استقالة 3507 أطباء، وفي عام 2020 استقال 2968 طبيبا، أما عام 2021 فكان العدد الأكبر من المستقيلين من العمل الحكومي بنحو 4127 طبيبًا، وخلال الثلاث شهور الأولى من 2022 استقال 934 طبيبًا، بإجمالي 11 ألفا و536 طبيب مستقيل منذ أول 2019، حتى 20 مارس 2022.
البيئة
يقول الدكتور طارق الخولي، أستاذ أمراض القلب، إن أسباب هروب الأطباء متعددة بينها، بيئة العمل غير الآمنة وغير الآدمية، ونقص فرص التعليم الطبي المستمر الذي يمثل الماء والهواء بالنسبة للطبيب.
يشير الخولي، إلى النقص الحاد بالمستلزمات والأجهزة التي يحتاجها الطبيب لمساعدة المريض، ما يؤدي إلى المشاكل المستمرة، ويكون الطبيب في مواجهة المريض، وأهله بلا حماية، وعدم التقدير المادي المناسب للأطباء الذين يبذلون جهدا خرافيا من أجل المعيشة بالكفاف، والمحافظة على مستواهم العلمي والاجتماعي.
أوصت نقابة الأطباء بضرورة العمل على زيادة عدد الطلاب الذين يتم قبولهم بكليات الطب البشري بالجامعات الحكومية، والخاصة عن 10 آلاف طالب سنويًا، بما لا يتعارض مع إمكانيات الكليات والمستشفيات الجامعية في توفير مستوى جيد من التعليم الطبي،
وكذلك أوصت بالتوسع في إنشاء كليات طب بشري جديدة حكومية أو خاصة أو أهلية، بما لا يخل بمعايير الالتحاق أو التدريب الطبي.
بحسب الدكتورة إيمان سلامة، عضو مجلس نقابة أطباء سوهاج، أن الأطباء يعانون من نقص الأدوات والضغط الكبير والظروف الصعبة التي يعملون بها، وتكرر الاعتداء عليهم، وآخرها طعن طبيب في مستشفى بسوهاج، وهي حالة تتكرر كثيرا في كل المحافظات.
تشير دراسة سلامة، إلى أن 88% من الأطباء المشاركين في العينة التي تم استطلاع آرائها تعرضوا للاعتداء اللفظي، بينما 42% تعرضوا للعنف الجسدي في ظل غياب أي حماية أمنية أو قانونية، بينما زادت معدلات استقالة وهجرة الأطباء لـ 12 طبيبا يوميًا وفقًا للدراسة ذاتها، مشيرة إلى استمرار نزيف القطاع الطبي وفرار الأطباء، والخاسر هو المواطن المصري.
أرقام صادمة
وفًقا للاتحاد العام للمصريين في الخارج، فإن تعداد علماء مصر المغتربين 86 ألف عالم، وتأتي مصر في المركز الأول في عدد العلماء على مستوى العالم، مبينًا أن ذلك الرقم يتضمن 1883 عالمًا مصريًا في تخصصات نووية نادرة، و42 عالمًا مصريًا في وظيفة رئيس جامعة، فيما تستأثر أمريكا بمفردها بنحو 3 آلاف عالم مصري بكافة التخصصات.
يتعين على صانعي السياسة وضع البرامج والسياسات التي من شأنها إبقاء ذوي الكفاءات، عن طريق تقديم حوافز لهم للبقاء في الوطن، سـواء بإعادة النظر في مستويات العوائد أو الدخول الملائمة لهم، أو من خلال توفير مـوارد أكثر ومناخ أفضل للبحث العلمي في مصر، فالأطباء في أوروبا على سبيل المثال، يتلقون أكثر من عشرة أضعاف، ما يتقاضاه نظراؤهم في مصر.
الولايات المتحدة تستقبل النصيب الأكبر من الكفاءة والعقول المصرية بنسبة 38%، تليها كندا بنسبة 25%، ويرتبط الأمر بتوفير إمكانيات البحث العلمي من معامل ومختبرات وتمويل وفرق بحثية متكاملة ووجود مئات الجامعات التي تحفز الإبداع، فدوافع هجرة ذوي المهارات العالية، هو البحث عن عوائد أعلى على التعليم في ظل انخفاض العائد على التعليم في مصر.
تجمع الدراسات، على أن التأثير الإجمالي لهجرة العقول في التنمية يكون سلبيًا، ويلحق الضرر برأس المال البشري، ويزيد حدة الفقر، ويوسع الفجوة في التكنولوجيا، كما أن الاقتصاد المحلي يخسر من هروب المخترعين والمهندسين وغيرهم؛ فمنتجاتهم التي يطورونها، نعيد استيرادها مجددا بملايين الدولارات.