بعد أكثر من عقد على إصدار القرار بقانون الخاص بتعارض المصالح رقم 106 لسنة 2013، من قبل الرئيس المؤقت عدلي منصور، وبعد نحو عقد أيضا على تعديل دستور 2012 عام 2014؟، لا أحد يسمع عن قانون تعارض أو تضارب المصالح الذي نصت عليه المادة 218، من الدستور. هنا يبقى السؤال، ماذا حدث كي يبقى هذا القانون حبيس الأدراج؟ يطال غيره من عشرات القوانين التي تحدث الدستور المصري عن حتمية سنها، ووضع آجالا لبعضها، أسماها البعض من الممالئين وبطانة السوء، آجالا تنظيمية؛ لتبرير تأخير السلطة التنفيذية في تقديم تشريعات بشأنها لمجلس النواب، ورغم ذلك مرت السنون، تلو السنين، ولم تصدر أي بادرة أمل؛ كي يصدر هذا القانون، هو وقوانين منع التمييز والإدارة المحلية ومنع ندب القضاة والعدالة الانتقالية…إلخ إلخ.

دستور1971 بكافة تعديلاته، لم يشر إلى كلمة تعارض أو تضارب المصالح ببنت شفاه، ولم يشر إلى مكافحة الفساد بأي من مواده. وعندما جاء دستور 2012 الذي وضع إبان حكم الإخوان المسلمين للبلاد، أشير لهذا المفهوم في الدستور للمرة الأولى، وكانت تلك الإشارة ليست مجرد شعار، إذ حرص الدستور، على أن يعطيها قدر من التنظيم والضبط. ففي الباب الرابع منه، وتحت عنوان “الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية”، كان هناك عنوان “المفوضية الوطنية لمكافحة الفساد”، حيث ورد في المادة(204) “تختص المفوضية الوطنية لمكافحة الفساد بالعمل على محاربة الفساد، ومعالجة تضارب المصالح، ونشر قيم النزاهة والشفافية وتحديد معاييرها، ووضع الاستراتيجية الوطنية الخاصة بذلك كله، وضمان تنفيذها بالتنسيق مع الهيئات المستقلة الأخرى، والإشراف على الأجهزة المعنية التى يحددها القانون”. وقد حرص الدستور على وضع أسس عامة لعمل الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية على وجه العموم، بإشارة المادة(200)، إلى أن تلك الأجهزة والهيئات تتمتع بالشخصية الاعتبارية العامة، والحياد، والاستقلال الفني والإداري والمالي، ويتعين أخذ رأى كل هيئة أو جهاز منها فى مشروعات القوانين واللوائح المتعلقة بمجال عملها. كما تقدم تقارير خلال مدى زمني حدده الدستور، إلى كل من رئيس الجمهورية، ومجلس النواب ومجلس الشورى، وعلى مجلس النواب أن ينظرها، وتنشر هذه التقارير على الرأى العام، وتبلغ الأجهزة الرقابية سلطات التحقيق المختصة، بما تكتشفه من دلائل على ارتكاب مخالفات أو جرائم (مادة201). ويعين رئيس الجمهورية رؤساء تلك الهيئات والأجهزة بعد موافقة مجلس الشيوخ، ولمدة 4 سنوات تجدد مرة واحدة، ولا يعزل هؤلاء إلا بموافقة المجلس المذكور(مادة202)، ويصدر قانون يخص تنظيم كل هيئة على حدى(مادة203).

أما الدستور الحالي، وهو ذات دستور 2012 بعد تعديله، فقد أورد في الفصل الحادي عشر من الباب الثاني منه في المواد من215- 221 تنظيم مشابه إلى حد كبير للهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية أنفة الذكر، لكنه تميز بميزة، وهي إنه أوكل إلى القانون تحديد الهيئة المختصة بمكافحة الفساد، دون أن يشير إلى تأسيس “المفوضية الوطنية لمكافحة الفساد”، على عكس تفاعله مع أسماء هيئات مستقلة محددة، وردت في الدستور قبل تعديله كهيئة الانتخابات والشئون الخاصة بتنظيم الإعلام. لذلك ظهرت مسألة عدم الإشارة لمفوضية مكافحة الفساد، أمر غريب ومحل تساؤل.

لكن الدستور بعد تعديله أشار صراحة لمبدأ مكافحة الفساد، إذ ذكر في المادة(218) منه أن “تلتزم الدولة بمكافحة الفساد، ويحدد القانون الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية المختصة بذلك. وتلتزم الهيئات والأجهزة الرقابية المختصة بالتنسيق فيما بينها فى مكافحة الفساد، وتعزيز قيم النزاهة والشفافية، ضماناً لحسن أداء الوظيفة العامة والحفاظ علي المال العام، ووضع ومتابعة تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد بالمشاركة مع غيرها من الهيئات والأجهزة المعنية، وذلك على النحو الذي ينظمه القانون.”.

وقد أشار دستور2012 بعد تعديله إلى أمثلة مهمة لتضارب المصالح، تناول بعضها الدستور الأصلي. ففي المادة87 المتصلة بالانتخابات ذكر “…. ويحظر استخدام المال العام والمصالح الحكومية والمرافق العامة ودور العبادة ومؤسسات قطاع الأعمال والجمعيات والمؤسسات الأهلية فى الأغراض السياسية أو الدعاية الانتخابية”. وفي الحديث عن استقلال القضاء ذكر في المادة(186)، أن “القضاة مستقلون…. ويحدد القانون شروط وإجراءات تعيينهم، وإعاراتهم، وتقاعدهم، وينظم مساءلتهم تأديبياً، ولا يجوز ندبهم كليا أو جزئيا إلا للجهات وفى الأعمال التى يحددها القانون، وذلك كله بما يحفظ استقلال القضاء والقضاة وحيدتهم، ويحول دون تعارض المصالح….”. وفي حديث المادة 109 من الدستور، تناول الدستور حالات على سبيل الحصر لمنع تضارب المصالح بين أعضاء مجلس النواب ومؤسسات الدولة. وكذلك فعلت المادتين 145 و166بالنسبة لرئيس الجمهورية والوزراء على الترتيب. 

من المهم بالطبع عند الحديث عن التشريع الإشارة إلى القانون 106 لسنة 2013، الذي صدر قبل تعديل دستور2014 تحت عنوان “في شأن تعارض مصالح المسئولين في الدولة”، وهو قانون يتضح من الوهلة الأولى لقراءة عنوانه، أنه يمس فئات محددة ويتجاهل آخرين، فهو على سبيل المثال لا علاقة له بنواب البرلمان أو أعضاء مجلس الشيوخ أو أعضاء المحليات أو الموظفين في الجهاز البيروقراطي على اختلاف مشارب عملهم. صحيح القانون 62 لسنة 1975، ينظم مسألة إقرارات الذمة المالية للموظفين على وجه العموم، لكنه تنظيم ثبت قصوره عن مكافحة الفساد، بسبب تجاهله للعديد من الأمور وضعف المتابعة من أجهزة الرقابة، ما جعله قانون متقادم، ولا يواكب العصر على الإطلاق. وبنفس الدرجة تحدى عديد نواب البرلمان وعديد أعضاء مجلس الشيوخ لائحة المجلسين، بأن خاضوا في سياسات يحظرها القانون بسبب تضارب المصالح، ما جعل كل تلك المواثيق حبرا على ورق.

هكذا كان يتوقع من القانون 106 لسنة 2013، أن يكون مواجها للقصور في القوانين الأخرى لمحاربة الفساد، لكنه هو الآخر، جاء قاصرا، فالمخاطبين بأحكام القانون، لا يتعدون في أفضل التقديرات الألف شخص بإشارتها، أن هؤلاء المخاطبين هم رئيس الجمهورية والوزراء ونوابهم والمحافظين وسكرتارية العموم بالمحافظات ورؤساء الوحدات المحلية والهيئات والمؤسسات والمصالح العامة، ونواب ومساعدي كل هؤلاء وكذلك المفوضين بعملهم.

لقد كان حريا بالمشرع القانوني، أن يضيف الكثيرين للمخاطبة بأحكام هذا القانون، خذ على سبيل المثال أعضاء مجلس النواب ومجلس الشيوخ التي تتعارض مناصب الكثير منهم كرؤساء للجان النوعية في المجلسين مع أعمالهم الخاصة خارج البرلمان. خذ مثلا مشاركة رئيسا لجنتي الزراعة بالمجلسين لوزير الزراعة الحالي في جولاته الميدانية بالمحافظات المصرية المختلفة، رغم كونهما يمتلكان شركات لصناعة المبيدات الزراعية!!.

الأمر الثاني المهم، أن القانون في المادة 15 منه قصر تولى المسئولين الرسميين السابقين في الدولة لمناصب في القطاع الخاص، على الذين تركوا مواقعهم التنفيذية المشار إليها آنفا، عقب مرور 3 أشهر على الأقل عن ترك الموقع العام، وهي مدة قليلة للغاية، وكانت قبل ذلك 6 أشهر. جدير بالذكر أن القانون الفرنسي يحدد تلك المدة بـ 3 سنوات، بها يكون قد جرت تغييرات جوهرية في الأشخاص والمعلومات والتقنيات المتعلقة بعمل المسئول السابق، ما يجعل الموظف العام السابق في حالة حياد أو قطيعة فعلية مع عمله السابق. لكن حتى تلك المدة الصغيرة في التشريع المصري لم يلتزم بها الكثيرون. خذ على سبيل المثال لا الحصر وزير الإسكان السابق عاصم الجزار، الذي ترك المنصب في 2 يوليو الماضي، أعلن في 6 يوليو، أنه عين رئيسا لمجلس إدارة شركة نيوم للتطوير العقاري التي يمتلكها إبراهيم العرجاني.

 الأمر الثالث، أن المادة الرابعة من القانون القاصر والمبتور(106 لسنة 2013)، عهدت إلى “لجنة الوقاية من الفساد” تقدير، ما تراه متعارضا مع المصالح. وتلك اللجنة ذكر القانون، أنه “يصدر بتشكيلها وتحديد اختصاصاتها قرار من رئيس الجمهورية”. هذا الأمر ذكر في القانون لكنه لم ينفذ؛ لأنه لم يصدر بعد قرار بتشكيل تلك اللجنة بعد عقد ونيف من صدور هذا القانون. ناهيك عن أن اللائحة التنفيذية للقانون نفسه لم تصدر بعد.

أخيرا وليس آخرا، لقد صدر عن الدولة ثلاث استراتيجيات لمكافحة الفساد(2014- 2018) (2019- 2022) (2023- 2030). وكانت الاستراتيجية الأولى قد صدرت عشية صدور تقرير “النزاهة المالية العالمية” عام2014، الذي ذكر أن الفساد يكلف مصر سنويا 8 مليارات دولار. المهم في ذلك كله أنه رغم الكلام المنمق في الاستراتيجيات الثلاث، إلا أن تضارب المصالح خاصة، والفساد عامة، صار في طريقة غير عابئ بوسائل المكافحة، فطبقا لمؤشر مدركات الفساد في تقرير منظمة الشفافية الدولية، احتلت مصر المرتبة 130 بين دول العالم فى العام 2022، وهو ما يعكس تراجعا عن وضعها عام 2021 بثلاث درجات.

من كل ما سبق، تبقى الحاجة ملحة ليس فقط لإصدار تشريع شامل وعام لمكافحة الفساد وتضارب المصالح، بل وأيضا أن يكون أداء أجهزة الرقابة والمكافحة أكثر نشاطا، وأن تطال المعالجة العاملين في القطاع الخاص، وأن يقوم القضاء بأداء مهامه بشكل أكثر كفاءة لملاحقة الفساد.