خطة استعادة الجسور، وقطع مسارات دعم الميليشيات

الجيش السوداني شن هجوما مفاجئًا فجر 26 سبتمبر 2024، ضد مواقع قوات الدعم السريع في الخرطوم، قبل ساعات قليلة من القاء عبد الفتاح البرهان كلمة السودان أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليؤكد أن بلاده تخوض معركة ضارية لتحرير العاصمة وبعض الولايات التي احتلتها ميليشيات ارهابية مدعومة خارجيًا.  

***

منذ اندلاع الحرب السودانية في ابريل 2023، والتحكم في الجسور العشرة – التي تقطع النيلين الأزرق والأبيض ونهر النيل- يحدد خريطة السيطرة بمدن العاصمة الثلاث «الخرطوم، خرطوم بحري، وأم درمان» ومناطقها المختلفة، باعتبارها وسيلة الربط الوحيدة بينها، وتحكمها في كل ما يتعلق بلوجستيات المعركة.. الجيش قبل الهجوم كان يسيطر على جسر واحد مقابل 6 جسور للدعم السريع، وتقاسم الطرفان السيطرة على جسري الحلفايا والفتيحاب بين أم درمان والخرطوم، ما حيَّد دورهما، أما جسر أم درمان/الخرطوم بحري فقد خرج من الخدمة فى نوفمبر 2023.

الدعم السريع تفوق داخل العاصمة لأنه إبان تخطيطه للتمرد، وضع إحكام السيطرة عليها على رأس أهدافه، لأن وجود المقرات السيادية «الرئاسة، قيادة الجيش، الأسلحة الرئيسية، مراكز صنع القرار، وسائل الإعلام، والمطار الدولي»، يضمن سرعة اسقاط الدولة، لذلك دفع بمعظم قواته قبل ساعة الصفر للتمركز قرب الجسور والأهداف السيادية والاستراتيجية داخل العاصمة، بذريعة تعزيز الأمن والحماية، ثم تدفق عليها المرتزقة الأفارقة عقب نشوب الحرب حتى تجاوزت قواته داخل العاصمة وحدها 100 ألف مقاتل.   

الجيش أدرك أهمية السيطرة على الجسور عندما نجح فى تحرير جسري «الفتيحاب والنيل الأبيض» من جهة أم درمان، ما سمح بتحقيق تقدم ميداني واسع داخل المدينة على حساب الدعم السريع، ثم استفاد من قطع جسر شمبات في نوفمبر 2023، لتحقيق تقدمًا حاسمًا في وسطها، لأن الجسر كان أهم ممر لتوصيل الامدادات لقوات الدعم بها.

***

هجوم 26 أكتوبر تم فجراً على عدة محاور، قوات الجيش عبرت جسري النيل الأبيض والفتيحاب من أم درمان وتموضعت عند مداخلهما من ناحيتي الخرطوم والخرطوم بحري، تحت غطاء نشط من القوات الجوية والمسيرات، كما استهدف مصفاة الخرطوم، لحرمان الدعم السريع من المصدر الرئيسي للوقود اللازم لتشغيل مركباته.

مناطق وسط وجنوب وشمال الخرطوم، ومنطقة القيادة العامة للجيش، وسلاح المدرعات، وسلاح الإشارة، شهدت قتالا عنيفا، لكن الأشد كان بمنطقة المقرن بالقطاع الغربي من وسط الخرطوم، في محيط سلاح الاستراتيجية، ما دفع طيران الجيش للمشاركة بغارات كثيفة، كما حلق فوق أم درمان للاستطلاع وتوجيه النيران تجنبا لاستهداف المدنيين الذين عادوا للمدينة عقب تحرير مقر الإذاعة والتليفزيون.

المبادرة بالهجوم انتقلت داخل الخرطوم من الدعم السريع الى الجيش، بنجاح الجيش في السيطرة على ثلاث من الجسور التي تربط بين الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري، وفي محور الخرطوم بحري سيطر على «المداخل الاستراتيجية والمناطق الحاكمة»، لتمكنه من استعادة السيطرة على كامل المدينة.. أما نهاية وجود الدعم السريع في مصفاة النفط شمالي الخرطوم فقد باتت مسألة وقت، لن يطول، لأن الميليشيات محاصرة داخلها والغذاء والذخيرة ينفذان دون تعويض، نتيجة الحصار البري والمراقبة الجوية لمنع وصول أي إمدادات، ما يضعف صمودها، ويعجل بسقوطها.

***

الدعم السريع شن هجمات على مدينة الفاشر عاصمة إقليم دارفور غربي السودان منذ صباح 21 سبتمبر، وهي العاصمة الوحيدة من ولايات دارفور الخمس التي فشل في السيطرة عليها، رغم محاصرتها منذ مايو 2024، الهجوم تم من ثلاثة محاور، ليتحول الحصار الطويل إلى حرب شوارع شرسة، توغلت خلالها الميليشيات فى مناطق سكنية لا تبعد كثيراً عن قيادة الفرقة 6 مشاة التابعة للجيش والمكلفة بتأمين الولاية.

المصادر الموالية للدعم صورت مقاتليه داخل ما زعمت أنها الخنادق التي تم الاستيلاء عليها، لكن الجيش أكد أن قواته – بالتعاون مع القوة المشتركة للفصائل المسلحة ومجموعات مدنية أخرى تقاتل إلى جانبه- دحرت الهجوم، كما أشارت الفرقة 6 الى أن شوارع المدينة مليئة بخسائر المتمردين الفادحة في الأرواح والعتاد.. التوقف المفاجئ للهجوم وانسحاب المهاجمين أكد صحة بيانات الجيش.

قوات الجيش والقوة المشتركة بقطاع غرب دارفور نجحت في قطع الطريق أمام رتل تابع لقوات الدعم السريع يتكون من 70 سيارة قتالية، كانت متجهة إلى محلية كلبس قرب مدينة الجنينة، ودارت اشتباكات عنيفة تكبد خلالها الدعم السريع خسائر فادحة في المعدات والأفراد، واستولى الجيش على عدد من المركبات القتالية.. الدعم السريع في محور شمال دارفور رد باعتراض رتل مركبات قتالية كانت متجهة الى الفاشر لدعم قوات الجيش.

الحصار والمعارك العسكرية أديا لتدهور الأوضاع الإنسانية في المدينة، التي تأوي أكثر من مليون ونصف من السكان والنازحين، وسط مخاوف من نقص حاد في الغذاء والخدمات الصحية، ما يفرض ترتيب عمليات إغاثة جوية على وجه السرعة.

***

زخم الحشود والتشوينات وطبيعة انتشار القوات وكثافة عمليات الاستطلاع الجوي كشف لقوات الدعم السريع عن اقتراب الهجوم على العاصمة قبل موعده بيوم واحد، لذلك حاولت تشتيت جهد قوات الجيش وإجهاض هجومه باستهداف مدينة سنار جنوب شرق البلاد، وهي المدينة الوحيدة بولاية سنار التي لم تسقط في أيدي الميليشيات رغم سيطرتهم على معظم أنحاء الولاية بما فيها عاصمتها سنجة منذ أواخر يونيو الماضي.. أهمية السيطرة على مدينة سنار أنها تسمح للدعم السريع بالوصول للحدود الاثيوبية، التي تسيطر عليها ميليشيات «فانو أمهرة» المعارضة لنظام حكم آبي أحمد منذ أوائل سبتمبر، ما يضمن الحصول على دعمها المباشر، كبديل عن الدعم الوارد عبر تشاد والذي يستهدفه الجيش، ولكن الأخير نجح في إحباط الهجوم.

***

وهناك ملاحظات جوهرية وملفتة لأي مراقب، فمنذ زيارة البرهان الأخيرة للقاهرة نهاية فبراير الماضي، شهد الجيش السوداني عددا من التطورات المهمة:

الأول: العمق والرصانة في الرؤية الاستراتيجية للموقف العسكري.

ثانيا: المهنية العسكرية في إدارة المعارك الميدانية، وحسن التنسيق والتكامل بين الأسلحة والتشكيلات المختلفة.

ثالثا: تفعيل دور القوات الجوية والمسيرات في دعم جهد القوات البرية، وذلك بعد تعزيز قوتها نتيجة لنجاح عمليات الإصلاح والصيانة، ودعم سلاح المسيرات وتوفير الذخائر، وتوفير بعض التسهيلات العملياتية.

***

التطورات الثلاثة السابقة ساعدت في إنجاح عملية الهجوم لاسترداد جسور العاصمة ضمن خطة تحريرها.

الجيش قدم مؤشرات مبشرة لبدء حصار قوات الدعم السريع، وقطع الإمدادات عن تشكيلاتها الميدانية بالداخل، ومنع قوافل الدعم والامداد الواردة من الخارج من دخول السودان، سواء بالتهديد بضرب مطار «أم جرس» التشادى الذي تستخدمه الامارات في تفريغ الامدادات ونقلها برًا لدارفور، أو البدء في توجيه ضربات جوية للمستودعات وقوافل الإمداد قبل وصولها للحدود.

الامارات اضطرت لتوصيل الامدادات العسكرية للميليشيات عبر مطار نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، وهنا وقعت المفاجأة؛ فبمجرد هبوط طائرة شحن «اليوشن» محملة بالأسلحة والذخائر قادمة من الإمارات يوم 26 سبتمبر، قامت طائرة ميج 29 سودانية، بقصف مدرج المطار وصالة كبار الزوار، ليتبين أن القصف طال غرفة عمليات تابعة للقوات الإماراتية داخل المطار، والمؤسف أنها اعترفت رسميا بمقتل 13 من الضباط والجنود، لكنها أرجعته لحادث داخلي غامض، دون إشارة الى أنهم كانوا في مهمة عسكرية بالسودان.

نأسف لهؤلاء الضحايا، ونأمل أن يكون الحادث مبررا لمراجعة رصينة لسياستها في السودان، خاصة أن الرهان على الميليشيات مآله الفوضى، ومحاولة إسقاط الجيش تتعارض مع مصالح مصر «الشقيقة»، كما بدأت تُفقِدها دماء وأرواح أبنائها، لأهداف يمكن تحقيقها من خلال التعاون المباشر مع الدولة السودانية.

***

المبادرة الأمريكية تم إجهاضها، وزيارة آبي أحمد لبورتسودان فشلت في دفع الأزمة خطوة واحدة الى الأمام، واتصال الشيخ محمد بن زايد بالبرهان عجز عن إذابة جبال الجليد لافتقاده حسن النوايا، ما أحبط المبادرة قبل بدئها، لتواجه الدولة السودانية الحقيقة، وهي أن تحرير الأرض من الميليشيات والمرتزقة المدعومين خارجيا لن يتم الا بدماء رجال الجيش وتضامن وتضحيات أبناء الشعب.

بدأت معركة تحرير الخرطوم، واستكمالها يقلب موازين القوى لصالح الدولة السودانية، ويسمح بعودة النازحين اليها، مما يفسر تمديد مصر فترة توفيق أوضاع السودانيين عاما آخر، يتمكن خلاله قطاع واسع منهم من العودة لديار الوطن، مما يؤدى الى انهيار معنويات الميليشيات، وتداعي سيطرتهم على باقي ولايات الوسط والجنوب وتحريرها.. أما دارفور في غرب البلاد، فهي مركز المؤامرة، والموقف فيها لا يبشر بخير، وقد يحتاج لسنوات من إدارة الأزمة بمزيج من الحكمة والقوة الرادعة، وذلك إذا ما قُدر للدولة السودانية الاحتفاظ بها.

3 أكتوبر 2024