بقدر تداعياته الماثلة والمحتملة، فإن اغتيال زعيم حزب الله “حسن نصر الله” لحظة فارقة في حسابات القوة ومعادلات الردع.

الحرب لم تحسم بعد وسيناريوهاتها، ما زالت مفتوحة.

رغم الضربات النوعية بالغة القسوة، التي نالت من المقاومة اللبنانية، فإن القفز إلى نتائج أخيرة، ترفع بعدها الرايات البيضاء خطأ فادح في قراءة الحادث المروع وما بعده.

من تحت الأنقاض عاد حزب الله بأسرع من أي توقع؛ لتضرب صواريخه الشمال الإسرائيلي من جديد.

بدا الحزب متأهبا للتصدي للتوغل البري، دوت في المكان صرخة “نصر الله”: “بيننا الأيام والليالي والميدان”.

كان ذلك تحديا جاء وقت اختباره بعد رحيل صاحبه.

بأي حساب، التدخل البري لن يكون نزهة خلوية للجيش الإسرائيلي، الذي بدت خطواته الأولى في الجنوب اللبناني متعثرة، ولحقت به خسائر موجعة بالأرواح والمعدات.

باليقين، فإن الضربات الإيرانية بالصواريخ الباليستية بعد طول انتظار لمواقع عسكرية عديدة دفعة بعد أخرى، وضعت حدودا للانتشاء الإسرائيلي، الذي أفقد رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو” اتزانه وبدأ يتوعد علنا الدول العربية كلها بمصائر مشابهة.

لم يكن “نصر الله” قائدا عاديا، فهو شخصية كاريزمية اكتسب صدقيته من معاركه، واتساق مواقفه مع تصريحاته، على مدى (32) عاما تولى فيها قيادة المقاومة.

هيأ الحزب لمواجهات ضارية وخاض حروبا ومواجهات أفضت إلى تحرير الجنوب اللبناني المحتل وأذل حرفيا في حرب (2006) الآلة العسكرية الإسرائيلية.

تناقضت في مشاهد ما بعد الاغتيال المشاعر، حزن بالغ على جانب، وفرح مفرط على الجانب الآخر.

لأول مرة منذ هزيمة السابع من أكتوبر (2023)، بدت صورة “نتنياهو”، كما لو أنه وجد أخيرا علامة نصر فشل في الوصول إليها على مدى عام كامل بالحرب على غزة.

أخذ ينشر فيديوهات مصورة، وهو ينظف بيته استعدادا للأعياد اليهودية.

أراد أن يقول، إن كل شيء قد حسم، أو يوشك أن يحسم، وأن البيت الإسرائيلي يتولى بنفسه مهمة تنظيفه، مما علق به من تحديات، دأب على وصفها بـ “الوجودية”!

ثم وهو يقضم تفاحا لبنانيا في سيارته، كأنها رسالة أخرى للعالم العربي بلا استثناء واحد، خاصة مصر التي ترتبط مع إسرائيل بمعاهدة سلام!

المجتمع الإسرائيلي كله انتابته مشاعر مماثلة، أفلت عيارها، كأن الحرب قد حسمت للأبد، رغم أن الاغتيال يستدعي بالضرورة روح ثأر وانتقام للرجل، وتأكيدا على مواصلة المقاومة بعده. 

أفلتت مشاعر في العالم العربي، تكاد تتماهى مع الحالة الإسرائيلية.

اختلطت أوراق في لحظة تقرير مصائر.

بعض الأسباب تعود إلى انحيازات “نصر الله” في الأزمة السورية.. وبعضها الآخر تعود إلى التماهي مع السياسات الإسرائيلية وكراهية فكرة المقاومة نفسها.

“إما أن تكون مقاوما، أو صهيونيا”.

كان ذلك تلخيصا انتشر على صفحات التواصل الاجتماعي لعمق الفرز وحدته.

كيف وصلوا إلى “نصر الله”؟

إنه- أولا- انكشاف البنية القيادية لحزب الله وشبكة اتصالاته بالكامل تقريبا، وهذه مسألة تستدعي سد ثغراتها للتوصل إلى مكامن الخطر.

وإنه- ثانيا- الغطاء الأمريكي الكامل استخباراتيا وعسكريا، الذي وفر المعلومات الأساسية ووجه الضربات بالغة القسوة لأقوى تنظيمات المقاومة بالعالم العربي.

لم يكن ممكنا لإسرائيل، التي تلقت هزيمة استراتيجية وأخلاقية في الحرب على غزة، أن تقلب الصورة تماما وكليا إلى ما تصورته نصرا مطلقا، يسمح لها بإملاء كلمتها على الشرق الأوسط كله، دون أن يتوفر لها دعم أمريكي شبه مطلق.

رغم النفي المتواتر من البيت الأبيض لأي ضلوع في الجرائم التي ترتكبها إسرائيل، إلا أنه في كل مرة يتأكد الدور الأمريكي الحاسم في إنقاذ إسرائيل بذريعة حقها في الدفاع عن نفسها!

إننا نحارب أمريكا.

هذه حقيقة لا يصح إنكارها.

وإنه- ثالثا- الهزال العربي الفادح، بالصمت أو التواطؤ، على جرائم الحرب الإسرائيلية، دون أدنى قدرة على تحديها.

الضعف يغري بالتمادي.

إذا ما تواصل الضعف العربي، فإن التصعيد الإسرائيلي سوف يفرض شروطه على الشرق الأوسط كله.

إذا هزمت المقاومة سوف تلوح في الأفق المنظور حقبة إسرائيلية بالغة التوحش.

كلام “نتنياهو” عن خرائط جديدة في الشرق الأوسط، لا بد أن يؤخذ على مجمل الجد.

من بين السيناريوهات المحتملة عودة مشروع التهجير القسري من غزة إلى سيناء بزخم أكبر.

يلوح تحت نفس الأفق المشتعل بالنار تهجيرا قسريا آخر من الضفة الغربية إلى الأردن.

لم تكن العمليات العسكرية الإسرائيلية في مدن ومخيمات الضفة الغربية محض “بلطجة قوة”، أو قتلا من أجل القتل، بقدر ما كانت مقصودة، حتى يكون ممكنا التوسع الاستيطاني خطوة بعد خطوة، والوصول إلى التهجير القسري في نهاية المطاف.

ربما تسعى إسرائيل لتداخل سياسي وعسكري في الشأن الداخلي اللبناني، أو أن تحقق بالتخاذل، ما عجزت أن تحققه- حتى الآن- بالسلاح.

وإنه- رابعا- المأزق الإيراني في إدارة تحالفاتها الإقليمية.

مثل اغتيال “نصر الله” بذاته ضربة على العامود الفقري للدور الإقليمي الإيراني وهيبته في محيطه.

إثر الاغتيال جرت عملية تشهير واسعة بإيران، وصلت إلى حد اتهامها، بأنها عقدت صفقة مع الولايات المتحدة للتخلص من زعيم حزب الله.

دأبت طهران على عدم التداخل المباشر في الصراعات المسلحة مع إسرائيل بذريعة عدم الانجرار إلى حرب إقليمية واسعة تضر بمشروعها النووي عند عتباته الأخيرة.

بدا هاجس الحرب الإقليمية طاغيا على حساباتها، قيد حركتها وردود أفعالها، فيما الطرف الآخر يفعل كل ما يريد اغتيالا وتغولا على كل حلفائها.

عند اغتيال “إسماعيل هنية” رئيس المكتب السياسي لـ “حماس” على أراضيها، مالت إلى التهدئة، رغم ما لحق بها من إهانة بالغة.

أكدت دوما، أن الرد آت في الوقت والمكان المناسبين، دون أن تفعل شيئا.

باستهداف “نصر الله” لم يكن ممكنا تكرار الحجة نفسها.

بدا الدور الإيراني ومستقبله على المحك.

كان خيارها صعبا، إما أن تقدم على فعل كبير يرد لها اعتبارها، ويؤكد بقوة السلاح قدرتها على الردع، وإما أن تضع أدوارها التي اكتسبتها على مدى أربعين عاما عند النهاية المحتمة.

عندما حسمت خيارها، وهاجمت بقوة صاروخية غير مسبوقة الدولة العبرية، استعادت هيبتها التي تضررت بقسوة، لكننا ما زلنا في أول الشوط.