لم تكن تعليقات البعض على الهجوم الإيراني على إسرائيل أول أمس، تختلف كثيرا عن التعليقات التي قيلت في شهر إبريل الماضي، وروجت لوجود اتفاق بين الجانبين، وأن الرد لا يعدو كونة مسرحية معدة مسبقا ومتفق عليها.

والمفارقة أنه طوال الفترة الماضية، تردد بقوة كيف أن إيران “باعت” حزب الله، وتركته يحارب وحيدا ضد إسرائيل، ولم ترد على اغتيال إسماعيل هنية في قلب عاصمتها، وأنها ضعيفة ومجرد ظاهرة صوتية، وحين ترد يقال إن الرد مسرحية، حتى لو كان ما أطلقته ضعف عدد صواريخ المرة الماضية، وأكبر عدد من الصواريخ، يلقى على إسرائيل منذ قيامها.

واللافت أن هناك أسبابا عديدة يمكن على أساسها انتقاد كثير من سياسات إيران وتدخلاتها في شؤون دول المنطقة، ودور أذرعها السلبي في العديد من البلدان العربية، كما أن حسابات إيران ليست كلها خالصة لوجه الله وفلسطين والقدس، إنما لديها حساباتها وطموحاتها كدولة إقليمية كبرى ولديها برنامج نووي، تريد الحفاظ عليه، وهي كلها أمور يمكن انتقاد إيران فيها أو مناقشتها.

ولذا فإن شيوع نظريات المؤامرة حول الموقف الإيراني، و”المسك” في القشور والتوافه، على طريقة هذه الصورة التي غزت مواقع التواصل الاجتماعي، ويظهر فيها الإمام الخميني، وهو ينزل من الطائرة التي أعادته من باريس لإيران، وكتب تحتها، منذ أن عاد للمنطقة ودولها، تشهد انهيارات وحروبا واليمن لم يعد سعيدا وسوريا والعراق ولبنان انهارت، وهو نوع من التعليقات، يمنع التفكير ومراجعة الأسباب الموضوعية داخل كل بلد التي أدت إلى هذه الانهيارات ومواجهتها.

إن ترك أمور حقيقية يمكن فيها الاتفاق أو الاختلاف مع إيران، يعكس تسطيحا وقصورا نادرا في التفكير، فطبيعي أن نختلف مع جوانب كثيرة، أو قليلة من سياسات إيران وتدخلاتها في شؤون البلاد العربية، لكن أن يصبح الكلام الفارغ نمط التفكير المعتمد كارثة حقيقية ومهينة لكل من يروجها.

إن تحليل الموقف الإيراني يحتاج لقليل من تشغيل العقل؛ لنتأكد أن هناك فارقا بين قدرات إسرائيل وإيران، فالأولى متفوقة على إيران تكنولوجيا، وسبق واخترقت وثائق برنامجها النووي الذي يفترض إنه سري، وقتلت عددا من علمائها، واغتالت قادتها وقادة ضيوف على أرضها. والرد الإيراني كان محدودا مقارنة بالعمليات الإسرائيلية، لأن إيران من ناحية أضعف من إسرائيل، كما أنها تعتبر أن مصالحها حاليا تعطي أولوية للحفاظ على برنامجها النووي، وهو يتطلب عدم الدخول في مواجهة شاملة، وإن الرد الإيراني الذي جرى أول أمس هو أقصى ما يمكن أن تقوم به دولة في مواجهة إسرائيل في ظل التوازنات الحالية.

طبعا من حق البعض، أن يقول إن الرد أقل من المطلوب، وإن إيران اضطرت إليه نتيجة انشغال أذرعها، وخاصة حزب الله بمعارك جارية مع إسرائيل؛ لأنها اعتادت أن يرد حلفاؤها نيابة عنها، وعليه لم يكن أمام إيران، إلا أن ترد بنفسها على اغتيال هنية ونصر الله، وهو رد يجب أن يكون دقيقا “بالشعرة”؛ لأنه سيُرغب في استهدافها بشكل مباشر، بحيث يقنع جمهورها وحلفاءها بقوة الرد، ويؤثر معنويا وماديا في إسرائيل، دون أن يؤدي إلى حرب شاملة.

الرد الإيراني من حيث تأثيره الفعلي على الأرض، كان محدودا، أما من حيث دلالاته الرمزية؛ فكان قويا، فمن المرات القليلة التي تنجح فيها دولة في “إمطار” إسرائيل بوابل من الصواريخ، وصل إلى 200 صاروخ في إطار حروب الردع المتبادل، وليس في إطار حرب شاملة، وهو أمر يكسر الهيبة التي أضفتها إسرائيل حول نفسها، ويجعلها في وضع قد تضطر فيه بفعل الضغوط الأمريكية إلى لجم ردها، كما حدث في شهر إبريل الماضي.

يبقى الصادم في مشكلة الغرق في مستنقع المسرحيات ونظريات المؤامرة، أنه انتقل من الهوامش إلى جزء من التيار الرئيسي الذي قبل، أن يتحول إلى “لجنة” بدون عقل ولا تفكير، فمسرحيات المؤامرة تريح العقل، وتلغي التفكير، ولو حتى فيما هو بسيط وواضح، بأن هناك دولة ترغب في الانضمام إلى النادي النووي المغلق على أعضائه الحاليين بأوامر أمريكية إسرائيلية، وبالتالي فإن صراعات إيران من أجل الحفاظ على مشروعها القومي في نفس الوقت لا يمكن أن تلغي أنها دولة لها توجهات عقائدية، ومن ضمن هذه التوجهات العداء لإسرائيل واستعادة فلسطين، وهي هنا تحسب حساباتها بدقة؛ فهي تقدم نموذجا عكس صدام حسين، وكثير من القادة العرب الذين دافعوا عن فلسطين في خطابهم السياسي، فهي تعرف أنها تسعى للانضمام “لنادي الكبار” بامتلاك سلاحها النووي، وبالتالي فهي تتعامل في معاركها بالنقاط، وليس بالضربة القاضية على طريقة شطب نظام صدام للكويت من على الخريطة الدولية واحتلالها، وهو يساوي في حالة إيران حاليا، أن ترسل مئات الآلاف من الجنود إلى لبنان لمحاربة دولة الاحتلال؛ لتقضي عليهم أمريكا والدول الغربية وإسرائيل، قبل أو بعد وصولهم، ثم يقوموا بعد ذلك بهجوم كاسح على إيران نفسها، ولن تستطيع لا روسيا المنشغلة في حربها في أوكرانيا ولا الصين “الكامنة” مساعدتها. ومن هنا اختارت إيران الرد المحدود والمحسوب والردع، الذي لا يوصل إلى حرب شاملة، رغم أنها تأخذ مخاطرة، حتى لو كانت محسوبة، ولكن في ظل حكومة التطرف الإسرائيلية الحالية، فإن الأمور يمكن أن تذهب إلى حرب أكثر اتساعا من “مواجهات الردع” الحالية.