لم يكن يدور بمخيلتي، أن تكون القوانين إحدى الطرق التي من الممكن، أن يتم استخدامها من قبل السلطات لمصادرة أموال الناس، أو التحفظ عليها تحت أسباب واهية، أو أن تكون تلك الأموال وسيلة من الوسائل المستخدمة لسد العجز المالي في خزينة الدولة، أو طريقة من طرق تجميع الأموال اللازمة لمسيرة السلطة، أو لسداد ما عليها من ديون أو قروض. وعلى الرغم من حماية النص الدستوري للمال الخاص، واعترافها بالحق في الملكية الخاصة، إلا أنني قد انتابتني الدهشة، حينما طالعت مشروع قانون الإجراءات الجنائية، فيما يخص تلك النقطة بشكل تحديدي.

وقد استحدث مشروع قانون الإجراءات الجنائية نظاماً جديداً للكفالات، حيث ورد في الباب الثامن منه، وفي مادته رقم 127، في الفقرة الثانية منها أنه: يخصص نصف مبلغ الكفالة؛ ليكون جزاء لتخلف المتهم عن الحضور في أي إجراء من إجراءات التحقيق والدعوى والتقدم؛ لتنفيذ الحكم والقيام بجميع الواجبات الأخرى التي تفرض عليه، ويخصص النصف الآخر لدفع ما يأتي بترتيبه:

أولاً– المصاريف التي صرفتها الحكومة.

ثانياــ العقوبات المالية التي قد يحكم بها على المتهم.

وإذا قدرت الكفالة بغير تخصيص، اعتبرت ضمانا لقيام المتهم بواجب الحضور وعدم التهرب من التنفيذ والواجبات الأخرى التي تفرض عليه.

وهذا النص بصياغته المعروضة، لا يمكن قبول أنه ينظم قواعد خاصة بالعدالة، إنما يسعى إلى مصادرة الكفالة التي قد يتم تقريرها على المتهم حال الإفراج عنه، وهو ما تؤكده عبارة التخلف عن الحضور، على الرغم من أن هناك نصوصا تجيز، أن تتخذ النيابة إجراءات في غير حضوره، فكيف يتم معاقبة المتهم على ذلك، بخلاف غياب تعريف حقيقي محدد لعبارة الواجبات الأخرى التي تفرض عليه. ذلك إضافة على جملة المصروفات التي صرفتها الحكومة، دونما تعريف أو تحديد لماهية تلك المصروفات، إلا إذا كانت الدولة تسعى إلى تحميل المتهمين، بما تنفقه على مؤسسة العدالة من مرتبات قضاة، أو تجهيز أبنية المحاكم وما إلى ذلك من أمور.

وإذا ما أضفنا على ذلك ما جاء بنص المادة 368 الواردة في الفصل الثالث تحت عنوان الإجراءات التي تتبع في مواد الجنايات في حق المتهمين الغائبين، وذلك بقولها إن: كل حكم يصدر بالإدانة في غيبة المتهم، يستلزم حتما حرمانه، من أن يتصرف في أمواله أو أن يديرها، وما يستتبع ذلك من تعيين حارس لإدارة أموال المتهم عن طريق المحكمة الابتدائية بناء على طلب النيابة، أو كل ذي مصلحة، كما أنه استلزمت تقديم كفالة مالي

ة من الحارس، وهو ما سيكون من أموال المتهم أيضاً.

فإذا كانت القواعد التشريعية تقتضي أن يكون وراء كل نص علة أو هدف تشريعي، حماية لحق أو منعا لجرم، فهل يتحقق ذلك في هذا النص، وما العلة وراء تصيره على هذه الصورة التي تخل بحقوق الأفراد وملكياتهم الخاصة التي يحميها الدستور، وماذا يعود على السلطة من هذا الإجراء، سواء مزيدا من التحكم والتسلط على المال الخاص للمواطنين، احترم ذلك لو كان الأمر متعلق بجريمة عدوان على المال العام، أو أي من جرائم الفساد المالي المرتبط بالمال العام، وحقوق الدولة، إنما أن يجري النص على إطلاقه في كل الجرائم، فهذا يعد من قبيل التجاوز التشريعي، والذي ربما يصل إلى مرتبة الانحراف بسل

طة التشريع، وهو ذلك العيب الخطير الذي يصيب القوانين التي يتم صياغتها على شاكلة مثل هذه النصوص التي تخالف المبادئ الدستورية، وتنجرف وراء استحواذ السلطة على مقدرات التشريع بشكل أو بآخر، وهو ما يخالف أهم مبادئ أو اشتراطات يجب أن يتصف بها أي تشريع، وهما الشرعية والمشروعية، وإذ أن الشرعية في مبناها الأساسي تعني ألا يكون التشريع بشكل إجمالي وتفصيلي مخالفاً للدستور، وأنه إذا التزمت السلطة التشريعية ما نص عليه الدستور، فإن أعمالها تتفق مع أصول الشرعية، غير أن السلطة التشريعية تتمتع بسلطة تقديرية واسعة، وهو ما يجعل هذه السلطة بمنأى في بعض الأحيان عن الرقابة الدستورية، فلا تخضع السلطة التشريعية لرقابة المحكمة الدستورية العليا، فيما تصدره من تشريعات إعمالاً لسلطتها التقديرية، ما لم تخالف بها أهداف الدستور، ويظهر ذلك المعنى بشكل أكثر وضوحاً، فيما يتعلق بالتشريعات الجنائية بشقيها “الإجرائي والموضوعي”، ودور المحكمة الدستورية العليا في استجلاء المخالفة لأهداف الدستور، يفترض أن يكون هذا الإخلال واضحاً ظاهراً جلياً، بحيث يكشف عن انتفاء الضرورة أو عدم التناسب في التجريم والعقاب، دون أن يحتاج الأمر إلى مراجعة السلطة التقديرية للشارع، والتي تقوم على اعتبارات الملاءمة في اختيار أفضل الوسائل؛ لتحقيق المقاصد التي توخاها الدستور، وفي ذلك المعنى فقد قضت المحكمة الدستورية العليا في حكمها بتاريخ 6 يناير سنة 2001، بأن “الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق، أنها سلطة تقديرية، ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها وتعبر عن تخوما لها، لا يجوز اقتحامها أو تخطيها، وكان الدستور إذ يعهد إلى أي من السلطتين التشريعية أو التنفيذية بتنظيم موضوع معين؛ فإن القواعد القانونية التي تصدر عن أيهما في هذا النطاق، لا يجوز أن تنال من الحقوق التي كفل الدستور أصلها سواء بنقضها أو انتقاصها من أطرافها، وإلا كان ذلك عدوانا على مجالاتها الحيوية من خلال إهدارها أو تهميشها”.

ومن هنا أعود لما سبق، أن كررته في مقالات سابقة متعلقة بمناقشة مشروع قانون الإجراءات الجنائية على مدار شهر كامل، من أن ذلك المشروع يسئ إلى سمعة مصر في المحافل القانونية، وأنه لا يتناسب بشكل أولي مع كم الخبرات القانونية والقامات العلمية التي تحتويها مصر في شتى أنواع القانون، بحسبه أحد أهم أدوات المعرفة الإنسانية، ذلك بخلاف القامات القضائية والفقهية التي تصدرها مصر إلى العالم، فهل سيتم تمرير مثل هذا التشريع المتخاذل على المجتمع المصري، فعلى الرغم من تعالي أصوات المعارضة ضد هذا المشروع بشكل، أرى أنه لم يسبق له مثيل، من خلال نقابة الصحفيين أو المحامين أو نادي القضاة، بخلاف الأصوات المتناثرة على مواقع السوشيال ميديا، فيجب والحال كذلك أن تحترم السلطات أصوات من داخلها، وتعود بهذا المشروع إلى المربع صفر، وتبدأ من حيث يبدأ الخبراء في عرضه على المتخصصين وأهل الخبرة وأصحاب الحق في مناقشتهم قبل عرضه على سلطة لتشريع.