ربما يظن كثيرون أن الأمم المتحدة هي هيئة دولية مقصورة فقط على الدول، والتي يتاح لها أن تتقدم لها بما تشاء من شكاو ضد بعضها البعض، أو مقترحات بقرارت، غير أن ما لا يعلمه هؤلاء أنه يحق للأفراد أن يتقدموا لهذه المنظمة العالمية الأولى بالشكاوى أيضا.إذ يشتمل نظام الأمم المتحدة لحماية حقوق الإنسان على طريقين، يستطيع الأفراد من خلالهما التقدم بشكوى تجاه أحد الدول التي يزعمون، أنها انتهكت حقوقهم المنصوص عليها في القانون الدولي لحقوق الإنسان.
الطريق الأول والأقدم، هو نظام تقديم شكاوى الأفراد لهيئات/ لجان معاهدات حقوق الإنسان، أما الطريق الثاني، فهو البلاغات الفردية للإجراءات الخاصة (المقررون الخواص والفرق العاملة المعنية) بمجلس حقوق الإنسان، وفي حال تقديم الفرد شكوى عبر أحد الطريقين، فإن ذلك يعني عدم قدرته على تقديم الشكوى إلى الطريق الآخر.
ورغم أن نظام الشكاوى لهيئات/ لجان المعاهدات بالأمم المتحدة هو النظام الأقدم، حيث ظهر لأول مرة في الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والتي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1965، مقارنة بنظام مجلس حقوق الإنسان الذي أنشأته الجمعية العامة في عام 2006، إلا أن العديد من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ترفض القبول باختصاص هيئات/ لجان معاهدات حقوق الإنسان في تلقي شكاوى الأفراد.
وتطرح الدول الرافضة مبررات عديدة، أبرزها على الإطلاق، أن هذا الأمر يعد شكلًا من أشكال المساس بالشؤون الداخلية للدول، وهو ما يخالف القواعد العامة في القانون الدولي العام، وأن هذا الاختصاص يعتبر تعديًا على اختصاص السلطة القضائية الوطنية، ومن بين تلك الدول الرافضة لهذا الاختصاص والمؤيدة لتلك المبررات مصر.
ويستند نظام معاهدات حقوق الإنسان بالأمم المتحدة إلى 9 اتفاقيات أساسية، ملحق بها مجموعة من البروتوكولات الإضافية.
وتنشئ تلك الاتفاقيات هيئات/ لجان معنية بمتابعة تنفيذ الدول الأطراف لالتزاماتها الواردة فيها، وتتكون تلك الهيئات/ اللجان من عدد من الخبراء المستقلين (من 10 إلى 25 خبيرا، بحسب المعاهدة) كما تنص هذه الاتفاقيات والبروتوكولات على مجموعة من الوظائف الأخرى لتلك الهيئات/ اللجان، من بينها اختصاصها بتلقي شكوى من شخص ضد دولة طرف، يدعي فيها حدوث انتهاك للحقوق المكفولة في الاتفاقية.
شروط
تقديم أفراد شكوى إلى أحد هيئات/ لجان المعاهدات، يتطلب مجموعة من الشروط الأولية، من بينها أن تكون الدولة المشكو في حقها طرفًا في المعاهدة التي تقدم الشكوى إلى لجنتها المعنية، وأن تكون الدولة أعلنت في وقت سابق قبولها لاختصاص هيئة/ لجنة المعاهدة بتلقي شكاوى الأفراد، وأن يتم استيفاء كافة طرق الانتصاف على الصعيد الوطني قبل تقديم الشكوى على المستوى الدولي.
وتقوم تلك الهيئات/ اللجان بتكوين مجموعة عمل من بين أعضائها تختص بالنظر في الشكاوى ومقبوليتها، وفي حال قبول الشكوى تحيل تلك المجموعة الشكوى للدولة الطرف؛ لإبداء ملاحظاتها وردودها بشأن ما ورد في الشكوى، وبعد النظر في ردود الدولة تعرض تلك المجموعة الأمر في النهاية على الهيئة/ اللجنة بكامل عضويتها لاتخاذ قرار نهائي بشأنها، والذي عادة يكون توصية تتولى الهيئة/ اللجنة متابعة تنفيذها مع الدولة.
من هم أصحاب الولايات؟
أما مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة فقد أنشأ نظام الإجراءات الخاصة، وهو عبارة عن مجموعة خبراء مستقلين (أصحاب الولايات)، ينتخبهم المجلس لولاية مدتها ثلاث سنوات، ويكونون مكلفين برفع تقارير، وتقديم المشورة بشأن حقوق الإنسان من منظور مواضيعي (وهم المعنيون بموضوعات محددة في مجال حقوق الإنسان مثل، مناهضة التعذيب، المحاكمة العادلة، التغييرات المناخية.. إلخ)، أو من منظور قُطري (وهم المعنيون ببعض الدول المحددة التي تنتشر فيها انتهاكات حقوق الإنسان، مثل أفغانستان وسوريا والسودان.. إلخ)، ويكون صاحب الولاية في أحيان كثيرة خبيرا واحد، وفي بعض الأحيان يكون فريقا (من 3 إلى 5 خبراء)، ويرفعون تقارير سنوية بعملهم وتوصياتهم لمجلس حقوق الإنسان.
وفي محاولة مجلس حقوق الإنسان التصدي لعزوف بعض الدول عن قبول اختصاص هيئات/ لجان المعاهدات في تلقي شكاوى الأفراد كشرط لمقبولية الشكوى، جعل مجلس حقوق الإنسان لأصحاب الولايات الحق في تلقي بلاغات وشكاوى الأفراد، ودون شرط قبول الدولة للإجراء، ولكنه وضع بعض الشروط البسيطة لقبول الشكاوى.
وفي حالة ما كانت الشكوى حول انتهاكات لحقوق الإنسان، ارتُكبت في السابق، تمر الشكوى بنفس الخطوات التي تمر بها شكاوى الأفراد أمام هيئات/ لجان المعاهدات، من توجيه رسالة الادعاء للدولة، ومنحها فرصة الرد، أما إذا كانت الشكوى بشان انتهاكات جارية أو محتملة الحدوث لحقوق الإنسان، فيحق لصاحب الولاية توجيه نداء عاجل للدولة لوقف الانتهاك وتوفير سبل انتصاف فعالة للضحايا.
مفارقة مصرية
المفارقة المدهشة في الأمر، أنه ورغم رفض مصر لإجراء شكاوى الأفراد أمام هيئات/ لجان معاهدات حقوق الإنسان، وتأييدها لمبررات الدول الرافضة، إلا أنها تتفاعل بشكل إيجابي مع نظام شكاوى الأفراد التابع للإجراءات الخاصة في مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، ولا سيما خلال السنوات العشر الأخيرة.
كما أعلنت الدولة المصرية خلال الحوارات التفاعلية التي أجرتها مع عدد من هيئات /لجان المعاهدات بالأمم المتحدة على مدار العامين الماضيين بمناسبة مناقشة تقاريرها الدورية، عن تفاعلها مع نظام الشكاوى والمراسلات بمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، للرد على المزاعم المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان في مصر، وفحص ومتابعة الجاد منها لمعالجته، وتظهر البيانات الرسمية المعلنة عن مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، أن مصر منذ يناير 2011 وإلى يوليو 2024، قُدمت بحقها نحو 200 شكوى في نظام الشكاوي التابع لأصحاب الولايات بمجلس حقوق الإنسان، وأن الدولة قد أبدت ردودا وتوضيحات بشأن 88 من تلك الشكاوى.
ومن المهم الإشارة، إلى أن الحكومة المصرية كانت قبلت في نهاية عام 2019، توصيات خلال عملية الاستعراض الدوري الشامل الأخيرة بالنظر في التصديق على البروتوكول الملحق باتفاقية القضاء على التمييز ضد المرأة بشأن شكاوى الأفراد، وهي التوصيات التي لم تنفذ حتى الآن، كما تلقت الحكومة خلال العامين الماضيين توصيات من اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، ولجنة مناهضة التعذيب بضرورة الإعلان عن قبول اختصاص هيئات/ لجان المعاهدات في تلقي شكاوى الأفراد.
التساؤلات التي تطرح نفسها وبقوة على الحكومة المصرية، وتحتاج إلى إجابات صادقة في هذا الشأن؛ لماذا الإصرار على رفض اختصاص هيئات/ لجان المعاهدات بتلقي شكاوى الأفراد؟، بالرغم من قبول الحكومة المصرية باختصاص أصحاب الولايات التابعين لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة في تلقي شكاوى وبلاغات الأفراد، بل والحرص على التفاعل معهم والرد عليهم والتفاخر بهذا الأمر أمام الآليات الدولية والإقليمية.
فارق
- ترى العديد من الدول، أن التجربة العملية أثبتت أن نظام الشكاوى الفردية أمام هيئات/ لجان المعاهدات تتسم بالرصانة والالتزام باتباع قواعد العمل المرعية، ولا تصدر قراراتهم إلا بناء على موافقة أغلبية أعضاء الهيئة/ اللجنة، وذلك بعكس أصحاب الولايات الذين اتهموا من قبل بعض الدول، بأنهم عادة ما يتجاوزون حدود ولايتهم، ويصدرون أحكامًا استباقية قبل انتظار ردود وإيضاحات الدولة، وأن غالبية الولايات تتكون من خبير واحد، وبالتالي يعود الأمر إلى قناعته الشخصية فقط، ودون الاستماع لأصوات أخرى.