في الوقت الذي كانت فيه الصواريخ الإيرانية تتساقط على تل أبيب، كان التفاؤل يسود أسهم شركات المقاولات الدفاعية في أمريكا، والتي ارتفعت أسهمها بشكل مُفرط منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، وتصاعد التوترات الجيوسياسية وآخرها العدوان المستمر على لبنان.
الأرباح التي تحققها أسهم شركات الطيران والدفاع بالبورصة الأمريكية مثل نورثروب جرومان، وجنرال ديناميكس، ورايثيون، وAVAV.US (منتج للطائرات بدون طيار)، يفسر إلى حد كبير السياسة الأمريكية بالمنطقة، ويوضح لماذا تصف واشنطن إسرائيل بأنها أفضل استثمار في تاريخها. إذ ان وجود إسرائيل في حد ذاته ومنذ عقود طويلة يدفع منطقة الشرق الوسط ودوله للتسلح ومراكمة مشتريات الأسلحة.
على وقع الضربة الإيرانية الثانية لإسرائيل، ارتفع سهم “لوكهيد مارتن” بنسبة 4.7% إلى 612.44 دولار في يومين، وسهم “نورثورب جرومان” 0.91% إلى 548.84 دولار، وصعد سهم “آر تي إكس” 1.21% إلى 125.9 دولار، وزاد سهم “3 هاريس تكنولوجيز” 0.97% عند 247.66 دولار، كما ارتفع صندوق “Defense ETF” المتداول الذي تُديره “بلاك روك” بنسبة 1.1% إلى 153 دولاراً؛ ليسجل مستوى قياسيًا جديدًا.
تعيش أسهم شركات السلاح الأمريكية من دماء وأرواح الشعوب، إذ جنى مؤشر ستاندرد آند بورز، للفضاء والدفاع بالبورصة الأمريكية عوائد سنوية بلغت 16.4٪ بين عامي 2008 و2018، مقارنة بنحو 11.2٪ لمؤشر “ستاندرد آند بورز” بشكل عام، دون أي مخاوف من حدوث فقاعات أو هبوط أسهم الشركات الدفاعية لأسفل فأسهم المجمع الصناعي العسكري الأمريكي غير مسموح لها بالانفجار.
الأرباح التي تحققها صناعة الدفاع، لا تنتهي في جيوب المديرين التنفيذيين والمساهمين بها، بل إن جزءا منها يتم توجيهه لتشكيل السياسة الخارجية الأمريكية، فمقاولو السلاح يمولون مراكز البحوث، وحتى أعضاء المجالس النيابية الأمريكية وموظفيهم الذين يدافعون عن التدخل العسكري وإثارة الحروب والصراعات العسكرية.
التغلغل بمراكز صناعة القرار
نجحت شركات الدفاع الأمريكية على مدار عقود في التغلغل بمراكز صناعة السياسة؛ فتضع مديريها التنفيذيين وحلفاءها في مجلس الأمن القومي وغيره من الوكالات “الحاكمة” عبر برامج التبادل الصناعي الرسمية؛ وتستخدم موقعها التنظيمي المتميز لتوجيه أولويات رأس المال المالي في اتجاه استثمار المزيد من الأموال في تكنولوجيات الأسلحة.
تمكنت شركات السلاح الأمريكية من تحويل نفسها لصناعة، لا تقبل المساس بها، وتتمتع بالحصانة ضد المطالبات بتقليص الإنفاق أو تبريره، ما يجعل واشنطن في حالة حرب مستمرة وتأجيج للصراعات والنزاعات العسكرية من أجل ضمان ربحية تلك الشركات وتنافسيتها عالميًا.
في السبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، ومع بدء ارتفاع مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى الشرق الأوسط، أعرب الكونجرس عن مخاوفه، من أن يستخدمها المُتلقون العرب ضد إسرائيل، ولكن مبدأ الرئيس السابق جيمي كارتر، وعد بإنشاء قوة انتشار سريع قادرة على التحرك إلى الخليج العربي بأوقات التهديد، كما اعتبر مبيعات الأسلحة الضخمة مجرد معدات، يديرها في نهاية المطاف أمريكيون، وليس جنود عرب.
تحول مفهوم قوة الانتشار السريع إلى قواعد أمريكية دائمة وتدخلات مباشرة في الخليج، وتغيرت الحجة السياسية لصالح صادرات الأسلحة الضخمة، وكان الادعاء الجديد هو أن هذه المبيعات منحت الولايات المتحدة نفوذاً على التفاعلات الإقليمية، سواء السياسية أو العسكرية.
آليات السيطرة
شهية صناعة السلاح الهائلة للتوسع دفعها لتوسيع دائرة دعمها؛ لتشمل المستشارين وخدمات التسويق، وظهور مجموعة من الصناعات التكميلية مثل، محلليّ استخبارات الأعمال، والصحفيين المتخصصين، والمستشارين الماليين، ومنظمي معارض الأسلحة والمؤتمرات الصناعية، وهي كيانات ولدت لخدمة شركات الدفاع وتسويقها، والترويج لمنتجاتها، وتسهيل نموها وتوسعها.
كما تشمل السيطرة مفكري السياسة الخارجية والسياسة العسكرية، ومراكز الأبحاث التي يعملون بها، والذين يشكلون بنية تحتية واسعة النطاق متشابكة مع المجمع الصناعي العسكري العالمي، والذي له تأثير كبير على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فـ 12 مركزًا من أكثر 25 مركز أبحاث أمريكيًا، تتلقى أموالًا طائلة من مصنعي الأسلحة.
أصبح أغلب مراكز الأبحاث التي تتخذ من واشنطن العاصمة مقراً لها، مثل المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، ومؤسسة بروكينجز، ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ومعهد دول الخليج العربية، تنتج مواد تروج لسياسة خارجية أمريكية عدوانية.
مركز الدراسات الأمنية والدولية “CSIS” على سبيل المثال، من بين أكبر 17 جهة مانحة له، هناك ست من أكبر شركات تصنيع الأسلحة (نورثروب جرومان، ولوكهيد مارتن، وبوينج، ورايثيون، وساب إيه بي، وهنتنجتون إنجلز، أكبر شركة لبناء السفن العسكرية في الولايات المتحدة)، ما يعني سيطرة شركات السلاح على أحد مراكز الأبحاث الرائدة في مجال السياسة الخارجية في الولايات المتحدة:
مراكز الأبحاث
الغريب أن الـ 11 جهة الباقية التي تدعم المركز تتضمن جهات مالية لها صلة غير مباشرة بشركات دفاعية مثل شركة ستار للتأمين، وهي أكبر شركات التأمين على المقاولين العسكريين الأمريكيين، وشركة دوكين فاميلي كابيتال، التي يديرها مدير صندوق التحوط “ستانلي دراكنميلر”، وامتلكت حصصًا كبيرة في شركات دفاعية كبرى.
وفقا لشركات السلاح، فإن تكلفة تمويل تقرير مؤسسة بحثية، سواء كانت مؤسسة بحثية أو جمعية ضغط صناعية، لا تقارن بالعائدات المترتبة على نشر رواية متحيزة في الصحف اليومية الرئيسية، وأمام أعين صناع السياسات وأعضاء طاقمهم، كما يضمن ذلك التعاون الترويج لأنظمة تصدير أكثر مرونة مع المنافسين.
في عام 2016، دفعت دولة خليجية “الإمارات” 250 ألف دولار مقابل ورقة سياسية في مركز الأمن الأمريكي الجديد (مؤسسة بحثية ليبرالية رئيسية)، دافعت عن تخفيف نظام مراقبة تكنولوجيا الصواريخ الذي يحظر تصدير الطائرات، بدون طيار المتطورة لها، وبعد شهرين من نشر التقرير، كتبت مجموعة من أعضاء مجلس النواب من الحزبين إلى الرئيس السابق ترامب، تحثه على الموافقة على بيع الطائرات باستخدام نفس الحجج المذكورة في التقرير.
مراكز الأبحاث الممولة جيداًــ مثل مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية، قادرة حتى على تمويل خبرائها بشكل مباشر في جهاز السياسة الخارجية التنفيذي فريتشارد جولدبرج، أحد أكثر صقور مجلس الأمن القومي الذي يدعم صراحة التعامل الحاسم مع إيران، كان عضواً في المجلس، بينما كانت مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية، تدفع راتبه ونفقاته الجزئية.
بالإضافة إلى نفوذها السياسي الهائل، فقد نمت قدرة الصناعة العسكرية الأمريكية على إملاء السياسة الخارجية الأمريكية وتوجيهها في اتجاه متشدد بشكل كبير، نتيجة للتغيرات البنيوية في الاقتصاد العالمي، ولا سيما العولمة، وتحول شركات البيانات المدنية إلى جهات فاعلة رئيسية في عمليات جمع المعلومات الاستخباراتية.
استثمارات ضخمة لآلة الحرب الأمريكية
يضمن تقاطع الطبقة المالية مع المؤسسة العسكرية استثمارًا في التقنيات العسكرية وعوائد مرتفعة لرأس المال المالي من الالتزام الأمريكي المستمر بسياسة خارجية شديدة العسكرة، رغم تأثيراتها المروعة على المدنيين المستهدفة بلادهم من قبل آلة الحرب الأمريكية، وينتج عن هذا التداخل أجندة للسياسة الخارجية، تهيمن عليها الحلول العسكرية.
تدعم عسكرة رأس المال المالي النفوذ السياسي لمنتجي الأسلحة، وهو ما أصبح ممكناً بفضل ربحية صناعتهم، وقد أدى التوحيد الذي تحركه عمليات الاندماج والاستحواذ إلى ظهور شركات ضخمة ذات أصول رأسمالية كبيرة وشبكات سياسية واسعة النطاق.
إن آلة الحرب الأمريكية منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، باتت تعني مستويات عالية من تفاؤل المستثمرين بشأن نمو القطاع الصناعي العسكري، فتصدير الأسلحة أصبح روتينيًا تمامًا بعد عقود من إغراق العالم بالأسلحة، كما أن الولايات المتحدة حاليا لديها قوات في 150 دولة، بما في ذلك 70 ألف جندي في الشرق الأوسط.
الحرب والربح علاقة عضوية
مبيعات الأسلحة بجانب أنها أداة سياسية مصممة لتوفير النفوذ والتأثير، فهي صناعة تهدف إلى الربح، والارتباط بين الحرب والربح مباشر وواضح، فعلى سبيل المثال، خلال فترة الـ 24 ساعة التي أعقبت اغتيال الولايات المتحدة للواء الإيراني قاسم سليماني، زادت حيازات أسهم خمسة مسئولين تنفيذيين فقط في صناعة الأسلحة بمقدار 7 ملايين دولار، وإذا ضربنا هذا الرقم بعشرات الآلاف من المسئولين التنفيذيين والمساهمين المنتشرين في مختلف أنحاء الصناعة، يتضح لنا لماذا يوجد عدد هائل من المهنيين ذوي الياقات البيضاء الملتزمين بموقف الولايات المتحدة المتشدد القائم على التلويد الدائم بالقوة واستخدامها، وهو الأمر الذي يخدم جيوبهم وحساباتهم ومعيشتهم المهنية والشخصية.
في النصف الأول من عام 2023، أنفقت شركات المقاولات الدفاعية وغيرها من الجهات الفاعلة في قطاع الدفاع، ما يقرب من 70 مليون دولار؛ للضغط على الحكومة الفيدرالية، وكان جزء كبير من هذا الضغط يتعلق بقانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2024، وهو مشروع قانون مخصصات سنوي يمول وزارة الدفاع “البنتاجون” والعمليات العسكرية، ويطلب من جماعات الضغط قانونًا الإبلاغ عن الإنفاق في الربع الثالث في 20 أكتوبر.
يخصص قانون تفويض الدفاع الوطني، ما مجموعه 876.8 مليار دولار، موزعة بين 844.3 مليار دولار لميزانية وزارة الدفاع و32.4 مليار دولار لبرامج الأمن القومي لوزارة الطاقة، وكان أحد أكبر جهود الضغط المنسقة فيما يتعلق بقانون تفويض الدفاع الوطني، يركز على شراء طائرات مقاتلة من طراز F-35، وهو المشروع العسكري الأمريكي الأكثر تكلفة بواقع 1.7 تريليون دولار.
تضييق الدائرة.. احتكار التأثير
في إبريل 2022، أعربت نائبة وزير الدفاع كاثلين هيكس عن قلقها من “الانحدار الكبير” في المنافسة داخل القاعدة الصناعية الدفاعية الأمريكية، بعدما وجدت دراسة، أجرتها الوزارة في فبراير 2022، أن عدد المقاولين الرئيسيين بمجال الدفاع تراجع من 51 إلى أقل من 10، كما أصبحت العديد من قطاعات سوق الدفاع خاضعة لسيطرة شركات ذات مراكز احتكارية أو شبه احتكارية.
الأمر ذاته كرره، الرئيس السابق دونالد ترامب عام 2019، حينما قال إن شركات الدفاع الأمريكية “اندمجت جميعها بحيث يصعب التفاوض معها”، وفي العام الحالي يفترض أن تنفق وزارة الدفاع وغيرها من وكالات الأمن القومي أكثر من 800 مليار دولار.