رغم مزاعم حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي بصمود الاقتصاد، لكن “المالية العامة” تئن في الذكرى الأولى للعدوان على قطاع غزة، مع توقعات متشائمة إزاء مستقبل حركة الاستثمار بعد توسيع دائرة الصراع لتشمل لبنان.
بلغت التكلفة المباشرة لتمويل الحرب بغزة حتى أغسطس الماضي 100 مليار شيكل “29.5 مليار دولار”، وفقًا لوزارة المالية، ويتوقع بنك إسرائيل ارتفاع ذلك الرقم إلى 250 مليار شيكل بحلول نهاية عام 2025، (التقدير تم إجراؤه قبل شن “تل أبيب” حربًا ضد لبنان).
من شأن استمرار دولة الاحتلال في عدوانها، خفض جديد للتصنيف الائتماني، ما يؤدي إلى تفاقم التأثيرات الاقتصادية التي قد تستمر لسنوات، خاصة بعدما ارتفعت تكلفة تأمين ديون “تل أبيب” ضد التخلف عن السداد لأعلى مستوى لها في 12 عامًا، وعجز ميزانيتها يتضخم.
سيرجي ديرجاتشيف، مدير المحفظة في “يونيون إنفستمنت”، أكثر الصناديق خبرة في ألمانيا، يقول إنه إذا استمرت الحرب، فإن مقاييس الديون السيادية الإسرائيلية ستستمر في التدهور، ومع مرور الوقت، سيفرض ذلك ضغوطا على التصنيف الائتماني.
وخفضت وكالة ستاندرد آند بورز للتصنيفات الائتمانية تصنيف إسرائيل على المدى الطويل من A+ إلى A، بسبب المخاطر الأمنية المتزايدة في ضوء تصعيد الأحداث بجنوب لبنان.
إسرائيل تقترض لتمويل العدوان
تتزايد احتياجات الاقتراض بإسرائيل بشكل كبير، فتكلفة الحرب باهظة بسبب؛ دفاعات القبة الحديدية الصاروخية، وتعبئة القوات على نطاق واسع وحملات القصف المكثفة، ما رفع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي العام الحالي لــ 67%، مع ارتفاع عجز الموازنة العامة إلى 8.3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى بكثير من 6.6% متوقعة سابقًا.
تقلصت قاعدة المستثمرين في الديون الإسرائيلية مع اهتمام متزايد بالتخلص من سنداتها أو عدم شرائها، بسبب المخاوف بشأن الآثار البيئية والاجتماعية لكيفية إدارة الحرب.
وقال متحدث باسم صندوق الثروة السيادية النرويجي، إن بنك نورجيس (البنك المركزي النرويجي) باع حصة في سندات الحكومة الإسرائيلية عام 2023؛ نظرًا لعدم اليقين المتزايد في السوق، بينما حذر ترانج نجوين، رئيس استراتيجية الائتمان للأسواق الناشئة في بي إن بي باريبا الفرنسي، من حالة الشك إزاء الاقتصاد الإسرائيلي، خاصة أن السندات الإسرائيلية كانت تتداول بفوارق أوسع بكثير من الدول ذات التصنيف المماثل.
لا استثمار في ظل الحرب
تُظهر بيانات البنك المركزي الإسرائيلي، أن الحصة التي يمتلكها غير المقيمين “الأجانب” من أدوات الدين بدولة الاحتلال انخفضت من 14.4%، تعادل 80 مليار شيكل في سبتمبر من العام الماضي، إلى 8.4% تعادل 55.5 مليار شيكل في يوليو 2024، ما يدل على تخارج المستثمرين الأجانب.
أظهرت بيانات من مؤسسة Copley Fund Research التي توفر التحليلات المستقلة لمديري الصناديق والمؤسسات المالية والشركات في جميع أنحاء العالم، أن تخفيضات المستثمرين الدوليين لصناديق إسرائيل، والتي بدأت في مايو 2023 وسط إصلاحات قضائية متنازع عليها، تسارعت بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، وملكية الصناديق العالمية للأسهم الإسرائيلية حاليا عند أدنى مستوياتها منذ عقد من الزمان.
انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر في إسرائيل بنسبة 29% على أساس سنوي عام 2023، وفقًا لـ “الأنكوتاد” (مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية) في أدنى مستوى منذ عام 2016، وفي حين أن أرقام عام 2024 غير متاحة، إلا أن وكالات التصنيف تحذر من التأثير غير المتوقع للحرب على مثل هذا الاستثمار، باعتباره مصدر قلق.
إنفاق حكومي لتعويض الخسائر
في إبريل الماضي، تعهدت الحكومة بتقديم 160 مليون دولار أمريكي من الأموال العامة؛ لتعزيز تمويل رأس المال الاستثماري لقطاع التكنولوجيا الحيوي، الذي يمثل نحو 20% من اقتصاد إسرائيل، بجانب إيواء الآلاف من النازحين بسبب القتال.
وتعمل عمليات النزوح ونقص العمالة بسبب؛ التعبئة ورفض إسرائيل السماح للعمال الفلسطينيين بالدخول، على إعاقة قطاعي الزراعة والبناء، والأخير كان عاملاً رئيسياً في تقليص النمو الاقتصادي.
وقالت كارنيت فلوج، محافظة البنك المركزي الإسرائيلي السابق، لشبكة سي إن إن: “إذا تحولت التصعيدات الأخيرة إلى حرب أطول وأكثر كثافة، فإن هذا من شأنه أن يفرض ضريبة أثقل على النشاط الاقتصادي والنمو في إسرائيل”.
قبل هجوم السابع من أكتوبر، والعدوان الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة، توقع صندوق النقد الدولي، أن ينمو اقتصاد دولة الاحتلال بنسبة 3.4% هذا العام، أما الآن، فتتراوح توقعات خبراء الاقتصاد بين 1% و1.9%، ومن المتوقع أيضاً، أن يكون النمو في العام المقبل أضعف من التوقعات السابقة.
ومع ذلك، فإن البنك المركزي الإسرائيلي ليس في وضع يسمح له بخفض أسعار الفائدة؛ لإنعاش الاقتصاد؛ لأن التضخم يتسارع، مدفوعاً بارتفاع الأجور والإنفاق الحكومي المتزايد لتمويل الحرب.
تكاليف العدوان تضغط على المالية العامة
قدر بنك إسرائيل في مايو التكاليف الناجمة عن الحرب بنحو 250 مليار شيكل “66 مليار دولار” حتى نهاية العام المقبل، بما في ذلك النفقات العسكرية والنفقات المدنية.
تقول فلوج، إن هناك خطرًا يتمثل في أن تخفض الحكومة الإسرائيلية الاستثمار لتخصيص الموارد للدفاع. وقالت: “سيؤدي هذا إلى تقليل النمو المحتمل للاقتصاد في المستقبل”.
حتى الانسحاب من غزة والهدوء على الحدود مع لبنان، من شأنه أن يترك اقتصاد إسرائيل في وضع أضعف، مما كان عليه قبل الحرب، فمن المتوقع أن تعاني إسرائيل من أضرار اقتصادية طويلة الأجل بغض النظر عن النتيجة.
يقول خبراء، “إن الانخفاض المتوقع في معدلات النمو في جميع السيناريوهات مقارنة بالتوقعات الاقتصادية قبل الحرب وزيادة الإنفاق الدفاعي من الممكن أن يؤدي إلى تفاقم خطر الركود الذي يذكرنا بالعقد الضائع بعد حرب 6 أكتوبر 1973 “
لتقليص الفجوة المالية، لا تستطيع الحكومة الاعتماد على تدفق صحي لعائدات الضرائب من الشركات، التي تنهار العديد منها، في حين، يتردد البعض الآخر في الاستثمار، ويصاحب ذلك عدم وضوح فيما يتعلق باستمرار الحرب.
شركات تغلق أبوابها
تتوقع شركة “كوفاس بي دي آي”، وهي شركة تحليلات أعمال كبرى في إسرائيل، أن تغلق 60 ألف شركة إسرائيلية أبوابها هذا العام، ومعظم هذه الشركات صغيرة، تضم ما يصل إلى خمسة موظفين، لكن العدد الكبير لها، يؤكد أن ٣٠٠ ألف إسرائيلي سيتعطلون عن العمل.
قال آفي حسون، الرئيس التنفيذي لشركة ستارت أب نيشن سنترال، إن المرونة الملحوظة لقطاع التكنولوجيا في إسرائيل حتى الآن، لن تكون مستدامة في مواجهة حالة عدم اليقين التي خلقها الصراع المطول والسياسة الاقتصادية “المدمرة” للحكومة.
حتى قبل هجوم السابع من أكتوبر، كانت خطط الحكومة لإضعاف القضاء تدفع بعض شركات التكنولوجيا الإسرائيلية إلى التأسيس بالولايات المتحدة، وقد أدى انعدام الأمن الناجم عن الحرب إلى تفاقم هذا الاتجاه، إذ تم تسجيل معظم شركات التكنولوجيا الجديدة رسميًا في الخارج، رغم الحوافز الضريبية للتأسيس محليًا.
لا يثق قطاع التكنولوجيا في الاقتصاد الإسرائيلي، فالشركات قلقة ومديروها، لا يثقون في أن العمال لن يتم إرسالهم للقتال في الحرب، ولا يثقون في أن المناطق آمنة، ولا يثقون في أن الاقتصاد مستقر، ولا يثقون في أن الحكومة لن تتدخل وتصادر ممتلكاتهم.
تحاول شركات التكنولوجيا بيع نفسها في الخارج مثل شركة الأمن السيبراني الإسرائيلية Wiz، التي كانت تهدف إلى الاستحواذ على Google مقابل 23 مليار دولار، والتي جذبت انتباه وسائل الإعلام الرئيسية في البلاد.
ضربة قوية للسياحة
تضررت السياحة الإسرائيلية بشكل كبير، حيث انخفض عدد الوافدين بشكل حاد هذا العام، بخسارة وصلت إلى 18.7 مليار شيكل (4.9 مليار دولار) من العائدات منذ بداية الحرب.
اضطر فندق نورمان، الواقع بتل أبيب، إلى تسريح بعض الموظفين، وخفض أسعاره بنسبة تصل إلى 25٪، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن بعض مرافقه – بما في ذلك مطعمه الياباني على السطح – لا تزال مغلقة لتوفير التكاليف، وانخفضت مستويات الإشغال من أكثر من 80٪ قبل الحرب إلى أقل من 50٪ حاليًا، وفقًا للمدير العام للفندق يارون ليبرمان.
المقاطعة الاقتصادية.. سلاح قوي
وتعرض لاقتصاد الإسرائيلي لضربة بسبب؛ حركة المقاطعة وفرض العقوبات العالمية، مع تزايد الحكومات التي تقول، إنها لا تستطيع الاستمرار في التجارة مع دولة ترتكب جرائم ضد الإنسانية، وهو أمر يضر بالاقتصاد الإسرائيلي الذي يعتمد بشكل كبير على التجارة الدولية والاتفاقيات الدولية. ويعد الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لإسرائيل.
تتزايد مخاوف اقتصاد دولة الاحتلال حول المواد ذات الاستخدام المزدوج، والتي من ناحية ضرورية أحيانًا لعمل الاقتصاد المدني، ولكن يمكن أيضًا تحويلها إلى أسلحة، خاصة بعد حكم محكمة العدل الدولية الصادر في 19 يوليو الذي أعلن أن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية غير قانوني، وأن مساعدة الاحتلال جريمة حرب.
يرى العديد من خبراء الاستثمار، حاليا، أن اقتصاد إسرائيل سيتضعضع تحت وطأة استمرار الحرب “العدوان” والمقاطعة والعقوبات الدولية، إلى أن تعترف الدولة العبرية بمتطلبات القانون الدولي.
الخبير الاقتصادي السياسي الإسرائيلي شير هيفر، يقول إن الأزمة الاقتصادية ستزداد سوءًا، ولا يوجد أي آفاق للتعافي، مضيفا: “لقد جفت الاستثمارات الأجنبية، وانسحب أكثر من 85 ألف شخص من قوة العمل، وهناك ربع مليون نزحوا داخليًا، وفقدوا وظائفهم منازلهم” .
تابع: “عدد الأشخاص الذين يغادرون غير مسبوق حقًا في تاريخ إسرائيل.. وعندما ترى الكثير من الناس يفعلون هذا فقط لحماية أسرهم، فإن النتيجة هي أن أولئك الذين يبقون يشعرون، بأن الدولة في عملية انهيار”.
وحقق الاقتصاد الإسرائيلي نموًا بنسبة 0.7٪ فقط في الربع الثاني من عام 2024، وبلغت نسبة العجز في الميزانية إلى الناتج المحلي الإجمالي 8.3٪ في أغسطس، ارتفاعًا من 7.6٪ في يونيو، ليبلغ 12.1 مليار شيكل (3.22 مليار دولار).