من 1925 عام تاسيس الدولة البهلوية، حتى يومنا هذا مائة عام، نصفها الأول كان الدولة البهلوية، ونصفها الآخر دولة الفقهاء، كل منهما على النقيض من الآخر، في النصف الأول موالاة للغرب، ثم موالاة للصهيونية، وفي النصف الثاني عداء للغرب وعداء للصهيونية، لكن رغم هذا التناقض تبقى ثوابت الروح الإيرانية التي تشكلت منذ الألف الأولى قبل الميلاد، روح شعب محارب وسياسي، وقائد يعتبر نفسه قطب الشرق القديم ثم الشرق الحديث، في المائة السادسة قبل الميلاد، اكتسح حضارات الرافدين والنيل، وكون إمبراطورية عملاقة من نهر النيل شرقاً حتى نهر السند غرباً، فرضت سلطانها على العالم القديم حتى اكتسحها الإسكندر المقدوني في المائة الرابعة قبل الميلاد، وانطوت تحت ضرباته صفحة الإمبراطورية الفارسية الكيانية أو الأخمينية. ثم تأسست الإمبراطورية الساسانية العظمى عند منتصف القرن الثالث الميلادي، واستمر سلطانها، ينافس الإمبراطورية الرومانية حتى منتصف القرن السابع الميلادي، حين اكتسح الإسلام الإمبراطوريتين معاً، طوال ألف عام أو يزيد، كانت إيران- أو بلاد فارس- آلة حرب وعسكرية وقتال وتوسع وسيطرة ومد نفوذ، بمثلما هي مركز سياسة وتدبير وملك وحكمة، بمثلما هي مركز علم وثقافة وحضارة. وبما أن الفاتحين العرب جاؤوا بالدين الجديد، وجابوا به أقطار العالم القديم، دون أن يكون لهم تراث سياسي سابق على الإسلام، إلا تراث القبيلة؛ فإنهم لم يكن لهم من بديل لبناء أنظمتهم السياسية والإدارية الجديدة، إلا الأخذ عن الحضارتين العظيمتين المنهزمتين الفارسية والبيزنطية، أخذ الأمويون أنظمة بيزنطة التي وجدوها، حيث مقر عاصمتهم في دمشق، وحيث مجال نفوذهم في الشام ومصر وشمال إفريقيا، ثم أخذ العباسيون نظم حكمهم وسياستهم عن الفرس، حيث كان مقر عاصمتهم بغداد، هي مقر المدائن عاصمة الفرس التي غزاها الفاتحون العرب، وآلت- بقوة الفتح- إلى حضارة الإسلام الصاعدة، العباسيون لم يكونوا مدينين فقط لنظم السياسة الفارسية، إنما كانوا مدينين- بصورة أكبر- للدعم السياسي والقتالي والفكري الفارسي الذي أمكن العباسيين من إسقاط الحكم الأموي، والإحلال مكانه، ومثلما تم اقتباس نظم الحكم البيزنطية والفارسية، كذلك كانت حركة الترجمة عن علوم الحضارتين بدأت في العهد الأموي، ثم بلغت ذروتها في العهد العباسي. استعارة نظم الحكم البيزنطية ثم الفارسية تفسر لك أمرين: 

1 – أولهما: لماذا جاء الحكم في الحضارة الإسلامية من الناحية العملية على عكس ما جاء به الإسلام في نصوص الكتاب الكريم والسنة الشريفة، الحكم في الإسلام على مر تاريخه سلطة مطلقة في حين نصوص الإسلام، تدعو للمشورة والمساواة والتواضع والمساءلة والمحاسبة، واعتبار الحاكم مجرد واحد من المسلمين، لا يمنحه موقع السلطة أي امتياز أو تفوق عليهم، والعكس من ذلك حصل، كان معاوية رضي الله عنه، ومن جاء بعده من خلفاء بني أمية مجذوباً لروح وأبهة القياصرة في بيزنطة، كما كان أبو جعفر المنصور وعظماء الخلفاء من بني العباس حتى المأمون مجذوبين إلى روح الكسروية الفارسية في جلالها وكبريائها، وعلى هذا كان الحكم في تاريخ الإسلام مزيجاً من طغيان الشرق القديم، مزيجاً من الكسروية والقيصرية، بلغ قمة نضجه في عصارة التجربة العثمانية، لما يزيد على ستة قرون متواصلة. 

2 – ثايهما: دور الحضارة الفارسية- إيران قبل وبعد الإسلام- في صياغة طبائع وأمزجة الشرقين القديم والحديث، هو دور أوسع بكثير وأبعد وأعمق، من أن يتم حصره في إيران المذهبية التي تشيعت- بقوة العنف والسلاح والقسر والإكراه الصفوي- منذ مطلع القرن السادس عشر الميلادي أي قبل سنوات قليلة جداً من بسط العثمانيين سلطانهم على الشام، ثم مصر ثم شمال إفريقيا ثم البحر الأحمر وما حوله، نظم الحكم القائمة في العالم العربي حتى هذه اللحظة، هي امتداد لتراث الحكم الإسلامي الكسروي القيصري، وهو- بهذا المعنى- امتداد للتراث السياسي للحكم الامبراطوري الفارسي القديم سواء قبل الإسلام أو بعده. هذا الشرق الأوسط المعاصر الذي نعيشه له من الجذور الفارسية، ما يفوق الخيال، وما تعجز عن استيعابه القراءة القشرية والسطحية لحركة الأحداث.

هذه الكسروية القيصرية كانت وراء سقوط الخلافة الإسلامية أكثر من مرة ، كما كانت وراء سقوط الإسلام ذاته بعد تسعة قرون في إسبانيا، ثم كانت في نهاية المطاف وراء سقوط الحضارة الإسلامية ذاتها وتحولها من حضارة قائدة رائدة إلى حضارة تابعة خاضعة، كما هو الآن، وبقي الدين وحده من دون حضارته التي انتقلت مشاعلها إلى الغرب الأوروبي، ثم هي الآن تبدو بوادرها في االشرق الآسيوي، بينما عالم الإسلام في مشرقه ومغربه غير مشارك في الحضارة المعاصرة. 

والخطأ الكبير الذي وقعت فيه- وما تزال- نظم الحكم الدينية والحركات السياسية الدينية هو، أنها لم تفرق بين استدعاء الدين، وهو باق محفوظ، واستدعاء الحضارة، وهي انطفأت جذوتها تماماً وورثتها، ثم حلت محلها، ثم زادت عليها، ثم سبقتها بمسافات بعيدة الحضارة الغربية، المنطق يقول استدعاء الدين، ثم نكون شركاء في بناء الحضارة المعاصرة لا نعاديها، ولا ندخل في صدام معها، ولا نضع حاضرنا وديننا ومستقبلنا في تناقض مع الواقع الغالب؛ لأجل استرداد حضارة مغلوبة، حتى لو كانت حضارتنا التي كانت قائدة ورائدة فيما سبق، المنطق يقول نستدعي من حضارتنا خير ما فيها، والذي ما زال العالم يذكره حتى اليوم، وخير ما فيها كان المجتمع القائم بذاته غير مرهون لإرادة الدولة، وغير مستلب لتخطيطها المركزي وتوجيهها التعسفي، وكان خير ما فيها العلم يتنافس في تحصيله جميع الطبقات، وكان خير ما فيها الأفق الإنساني المتحضر المستوعب لنوع وتعدد الطبقات والأجناس والأعراق واللغات والثقافات والحضارات، كان خير ما فيها روح السماحة الليبرالية، دون قسر ولا إكراه ولا تعصب ولا ضيق أفق. كان المنطق يقول، إن يتم استدعاء الدين بروح ديموقراطية معاصرة، تكفل للمسلمين التعايش مع عصرهم، دون صدام، كما دون ذوبان، وتسمح لهم بالمشاركة دون انعزال، ودون تهميش ودون خضوع للتمييز ضدهم والإقصاء. الذي حدث هو عكس المنطق: الحركات السياسية الدينية التي حكمت، والتي لم تحكم والتي ما زالت في الحكم، والتي سقطت عنه كلها قامت باستدعاء روح الإسلامي الأموي العباسي العثماني الذي صنع روح الشرق القديم، والذي لا يزال يصنع روح الشرق الأوسط الحديث، روح الطغيان الكسروي القيصري، لا روح إسلام الشورى والعدل والتواضع والمساواة، وانتفاء التمييز بين الناس والترحيب بالتعدد والتسامح مع الاختلاف والاستفادة من التنوع.

التحديث غير المحسوب الذي فرضته أوروبا الاستعمارية على بلادنا، كما على غير بلادنا في القارات الست، ثم نظم الحكم المحلية التي انصاعت للغرب بأكثر مما يستدعيه العقل والمنطق، وحجم التخريب الروحي والثقافي الذي نتج عن هذا وذاك، كل ذلك كان وراء الخطأ الكبير الذي وقعت فيه الحركات الدينية ونظم الحكم الدينية، وهو استدعاء الماضي، دون فرز نقدي عقلاني، لما يصلح وما يضر من عناصره ومكوناته.

إيران نموذج مثالي شاهد على هذه الحال، خمسون عاماً من التحديث غير المحسوب، ثم الانصياع للغرب ثقافة واستعماراً واستغلالاً في حكم الدولة البهلويه 1925 – 1979 م، ذلك فتح الباب للنقيض: خمسون عاماَ أو أقل قليلاً من حكم ديني في بلد مهم ذات طموح إمبراطوري، حكم ديني ليس أكثر من إضافة ديكتاتورية متميزة لمتحف الديكتاتوريات العقيمة في الشرق الأوسط، ديكتاتورية قلقة من داخلها غير مطمئنة لشعبها حريصة على إحكام القبضة الحديدية عليه، وهي في هذا القلق تتشارك مع شقيقاتها من الديكتاتوريات العربية التي شاغلها الأكبر، هو كيفية السيطرة على الشعوب ونزع حيويتها السياسية، وشل قدرتها على الحراك والتغيير، من هذه الزاوية إيران تنام على قلق داخلي عميق، لكن ديكتاتورية النظام الإسلامي في إيران تختلف في كونها ليست فقطة قلقة في الداخل لكنها- قبل ذلك وبعده- مقلقة في الخارج، مقلقة لجوارها العربي، مقلقة للدولة الصهيونية، مقلقة للقوى الغربية الكبرى ذات الهيمنة التقليدية على مقاليد الأمور ومقادير الشعوب ومصائر الحكام في الشرق الأوسط.

……………………………….

إلى متى تحتمل إيران التعايش مع القلق المكتوم في الداخل؟

وإلى متى تستمر في القدرة على صناعة القلق، ثم تصديره إلى محيطها الإقليمي والدولي؟

هذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.