بعد عام على عملية 7 أكتوبر، اشتعل النقاش في مصر والعالم العربي حول نتائجها، وهل بالفعل أعادت طرح القضية الفلسطينية على الساحة العالمية وفضحت الجرائم الإسرائيلية، أم أن التضحيات التي دفعها الشعب الفلسطيني من دماء أبنائه، ومن تدمير مدنه ومن مصابين وجرحى بعشرات الآلاف، لم يؤد إلى تغيير معادلات القوى، وظلت إسرائيل سلطة احتلال، تمارس القتل والإبادة الجماعية دون حساب؟

والحقيقة، أن حصاد 7 أكتوبر ليس أبيض وأسود، ونعم أم لا، على طريقة امتحانات “الدبلومات” الأمريكية التي تطلب إجابات قاطعة، ولا تنظر للسياقات المحيطة والأبعاد التاريخية والاجتماعية.

ومن هنا، ما يحسب لعملية 7 أكتوبر، أنها كانت مختلفة عن المواجهات المسلحة السابقة، لأنها وجهت ضربة مباغتة وغير مسبوقة للجانب الإسرائيلي، اتسمت بالاحترافية والدقة، بطريقة سحبت الانتقاد الرئيسي الموجه لفصائل المقاومة المسلحة وتيار الممانعة العربي منذ اتفاقية كامب دافيد في 1978، بأنها تيارات تهتم بالشعارات الأيديولوجية واللافتات السياسية، وإنها بعيدة عن الاحترافية والقدرة على الردع والمقاومة المؤثرة.

وكما قال سياسي مخضرم مثل عمرو موسي، إن عملية 7 أكتوبر أعادت وضع القضية الفلسطينية على سلم أولويات العالم، بعد أن هُمشت وظن الكثيرون أنها ماتت. أهمية هذا التصريح، إنه لم يأت من قائد في فصائل المقاومة المسلحة، ولا وزير في دولة ممانعة، إنما من أمين عام جامعة الدول العربية الأسبق، وهو موقف منسجم مع تقدير قطاع غالب من الرأي العام العربي والمصري.

وقد أوضحت 7 أكتوبر أيضا، ضعف المؤسسات الدولية، وعجرها الكامل عن ردع إسرائيل، فلا جنوب إفريقيا نجحت في ترجمة تحركها الشجاع والأخلاقي في محكمة العدل الدولية إلى قرارات تحمي المدنيين، ولا القرار اليتيم الذي أصدره مجلس الأمن بوقف إنساني للحرب طُبق فعلا، وصارت المؤسسات الدولية محافل للمطالبة بضبط النفس، ولم تعد حتى تسمح بإدانة الجرائم الإسرائيلية نتيجة الفيتو الأمريكي. 

أما على مستوى السلبيات أو بالأحرى الأثمان الباهظة التي دفعها الشعب الفلسطيني نتيجة عملية 7 أكتوبر، فتتعلق أساسا بالأرواح التي سقطت، فهناك 42 ألف شهيد ثلثهم من النساء والأطفال، وهناك حوالي 8 آلاف مفقود تحت الأنقاض، أي من المتوقع أن يكون عدد القتلى حوالي 50 ألفا، وهناك نحو 100 ألف مصاب، كما أن 60% من المباني السكنية في قطاع غزة دمرت بالكامل، والباقي معظمه متصدع أو آيل للسقوط وغير آمن، وهو ما ينطبق على المدارس والمستشفيات ودور العبادة أيضا.

هذه الأرقام تقول، إن الحرب في غزة تتجاوز في دمويتها النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). ولأن عدد القتلى يبلغ 2% من سكان القطاع، وإن أي مقارنة بسيطة مع إسرائيل ستوضح، إنه لو قُتل في إسرائيل 2% من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

وقد بلغ متوسط معدل الوفيات في غزة نحو 4 آلاف وفاة شهرياً، وبالمقارنة مع السنة الأولى من الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فقد بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، لكن بين دولتين، يقترب عدد سكانهما من 200 مليون نسمة، أما في العراق فإن أكثر سنوات الحرب دموية كانت في عام 2015، وفيها بلغ عدد القتلى نحو 1370 شهرياً، مع فارق أساسي أن المساحة التي يقع عليها قطاع غزة، وهي 360 كلم مربع وعدد سكانه يبلغ حوالي 2 ونصف مليون، ولا يستطيع المدنيون غير المشاركين في الأعمال القتالية مغادرة ساحة المعارك، كل ذلك جعل حرب غزة هي الأكثر دموية وبشاعة في تاريخ حروب ما بعد الحرب العالمية الثانية.

والحقيقة أن مشكلة الجرائم التي ارتكبت في قطاع غزة ترجع إلى أن كثيرا منها تم ويتم بقرارات واعية من المسئولين الإسرائيليين. صحيح أنهم على مدار السنوات التي سبقت 7 أكتوبر، كانوا يقومون بتلك الجرائم، لكنهم على الأقل، كانوا يخجلون منها ويحاولون تبريرها، وكان هناك دائما جانب من الرأي العام والنخب الإسرائيلية، يرفضها ويعلن بشكل واضح رفض سياسات العقاب الجماعي بحق الفلسطينيين، أما الآن فباتوا يقولون، إنه لا يوجد أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها؛ لأن الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك “فلا يجب أن ترحمه”.

 لقد أسقطت 7 أكتوبر القناع عن النخبة الإسرائيلية، واستمعنا منهم لتحريض على القتل والإبادة الجماعية، وتهديد بإلقاء قنبلة نووية على الفلسطينيين، وعملوا على تطبيق ما يقولونه على مدار عام بقتل النساء والأطفال بدم بارد.

لقد أخرجت ٧ أكتوبر طاقة العنصرية والاستعلاء والكراهية الكامنة داخل المجتمع والنخبة الإسرائيلية، وإنه لم يحدث في تاريخ الحروب الاستعمارية المعاصرة، أن أصبح الهدف قتل المدنيين وترويعهم، دون أي وازع أخلاقي أو دافع سياسي أو اقتصادي، وتراجعت أهداف الحروب الاستعمارية المعروفة، بما فيها أهداف الصهاينة من حرب ٤٨ باحتلال الأرض وطرد الفلسطينيين، وكان القتل مرادف للسيطرة على أرض أو استغلال اقتصادي وهيمنة سياسية، أما الآن فقد صار هدف إسرائيل هو القتل والترويع، بعد أن فشلت ولو مؤقتا في تنفيذ مخطط التهجير.

سيبقي حصاد 7 أكتوبر مريرا وقاسيا، وكشف زيف كثير من الشعارات التي يرفعها قادة الدول الكبرى، ومدى انحيازهم الفج لإسرائيل، واعتبار أن هناك ضحايا يُبكى عليهم، وآخرين لا قيمة لهم، وهو ما شكك الجميع في المنظومة القانونية السائدة، ومدى نجاعتها في فرض قرارات الأمم المتحدة ومؤسسات الشرعية الدولية على إسرائيل.

غيرت 7 أكتوبر في جوانب كثيرة، تتعلق بالواقع العربي والقضية الفلسطينية ومستقبل التطبيع مع إسرائيل، وأصبحت مؤسسات الشرعية الدولية التي تأسست عقب الحرب العالمية الثانية محل نقد، وتشككت قطاعات واسعة من الرأي العام العربي والعالمي في حيادها أو في جدواها أصلا، وهو ما سيقوي التنظيمات والجماعات من خارج الدولة (Non stat Actor)، والتي لا تؤمن بالشرعية الدولية ولا بشرعية نظمها المحلية، وهو تطور خطير تتصور إسرائيل واهمة، إنها بحربها على حماس وحزب الله ستقضي على هذه التنظيمات، إنما في الحقيقة هي تقويها بصور وأشكال جديدة.