التفاؤل قد يكون مفيدا، ولكن الإفراط والتسرع فيه قد يكون محبطا، بل وكارثيا أحيانا.

عام 2018، تولى آبي أحمد رئاسة وزراء إثيوبيا. ولكن صعود أحمد السلطة لم يكن كأي رئيس وزراء إثيوبي سبقه. المراقبون في الداخل الإثيوبي والخارج، وجدوا فيه المنقذ الذي سيغير إثيوبيا والقارة الإفريقية بأكملها.

سُلطت الأضواء على آبي أحمد كمصلح شاب سيجلب معه الديمقراطية والتجديد والسلام. ولكن في السنوات اللاحقة اتضح زيف تلك الصورة والوعود، حيث تحولت سياساته وممارساته للسلطوية وإشعال الحروب.

الحكومات والصحافة في الدول الغربية، كانتا شديدي الحماس لآبي أحمد. فقد خدعتهم الصورة الأولية التي أذاعها على العالم. ظنت القوى الغربية، بأنهم عثروا على حليف ديمقراطي، يحافظ على مصالحهم في دولة ذات مكانة جيواستراتيجية محورية في القرن الإفريقي. ولكن سرعان ما خيب آبي أحمد تطلعاتهم، حيث أصبح عاملا يثير الإضطرابات والصراعات في إفريقيا.

بداية خادعة

تولى آبي أحمد رئاسة الوزراء على خلفية احتجاجات، أجبرت سلفه هايلي مريام ديسالين، على الاستقالة.

مجموعة من العوامل المتشابكة أثارت غضب الإثيوبيين، مما دفعهم للاحتجاج منها انتهاكات حقوق الانسان وقمع المعارضة. بالإضافة إلى احتكار الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية السلطة لعقود، مع إقصاء قوميتي الأورومو والأمهرة من الحكم. ولهذا في دولة مزقها الحكم السلطوي والتقاتل العرقي، مثل آبي أحمد للإثيوبيين الأمل في التغيير.

آبي أحمد (الذي كان يعمل ضابطا في المخابرات)،/ هو أول رئيس وزراء ينتمي للأورومو، القومية التي تم إقصاؤها تاريخيا رغم كونها القومية الأكبر. في بدايات تولي آبي أحمد السلطة، قام بالفعل بعدة إصلاحات بارزة غير مسبوقة في إثيوبيا. فلقد رفع القيود على الصحافة، وأفرج عن المساجين السياسيين، وسمح لأحزاب المعارضة بالمشاركة في الحياة السياسية، ورحب بالمعارضة المنفية، وفتح الاقتصاد الإثيوبي على الاستثمارات الخارجية. كما نجح في إبرام اتفاق سلام مع إريتريا، لينهي الصراع بين البلدين. هذا الإنجاز الأخير، جعله يحصل على جائزة نوبل للسلام، ما عزز صورته الدولية.

أوهام الطلسم الديمقراطي

انعكست النظرة المتفائلة نحو آبي أحمد في الصحافة الغربية. فلقد ضمته مجلة التايمز لقائمة أكثر 100 شخصية مؤثرة عام 2019. واختارته الفورين بوليسي؛ ليكون من أهم 100 مفكر عالمي في نفس العام.

أبرز الصحف الغربية، كتبت مقالات تمدح أحمد وسياساته، فعلى سبيل المثال الفاينانشال تايمز، أطلقت عليه “طلسم إفريقيا الجديد”، و وصفت مقالة في الجارديان، صعوده “بالصحوة الديمقراطية”.

هذا الحماس، انعكس جليا في تصريحات وردود فعل المسئولين الغربيين. العلاقات الإثيوبية- الأمريكية ظلت عميقة ومتجذرة بالفعل في العقود التي سبقت صعود آبي أحمد. لكن توقع الأمريكيون أن العلاقات ستزدهر أكثر في عهد رئيس الوزراء الجديد. السفير الأمريكي في إثيوبيا مدح مبادرات آبي أحمد التي وصفها “بالاستثنائية”، وأشار أن التغيير سيعمق الشراكة والتعاون مع الولايات المتحدة. 

القوى الأوروبية أظهرت حماسا أشد برئيس الوزراء الجديد. في 2019، اختارت أورسولا فون دير لاين (رئيسة المفوضية الأوروبية) أديس أبابا كالوجهة الأولى لها خارج أوروبا عقب توليها المنصب. هدفت أورسولا خلال زيارتها للعاصمة التي يقع فيها مقر الاتحاد الإفريقي لتوطيد العلاقات والتعاون مع القارة الإفريقية.

انطوت الزيارة الأولى لرئيسة المفوضية خارج أوروبا لأديس أبابا، والتي تزامنت مع تولي آبي أحمد رئاسة الوزراء على دلالات سياسية مهمة. فلقد أكدت أورسولا على دعم الاتحاد الأوروبي للزعيم الاثيوبي الجديد، والتشديد على دوره في إحداث تغيير سيتعدى إثيوبيا؛ ليؤثر على مستقبل القارة بأكملها. صرحت أورسولا خلال لقائها بآبي أحمد، أن إثيوبيا “أعطت الأمل للقارة بأكملها”، وأضافت مخاطبة أحمد “أريدك أن تعلم بأننا إلى جانبك”، وأكدت على دعم سياسات آبي أحمد الإصلاحية، بالإضافة إلى توقيع اتفاقات بقيمة 170 مليون يورو مع إثيوبيا.

كما مدح ماكرون إصلاحات أحمد، ووقع مع إثيوبيا اتفاقات في مجالات الطاقة والمواصلات والثقافة. بالإضافة إلى أن البلدين اتفقا على تعاون عسكري لبناء قوة بحرية إثيوبية.

حماس ممزوج بالمصالح

حماس الحكومات الغربية يرتبط بإدراك أهمية إثيوبيا الجيوسياسية في إفريقيا. الدور المحوري لإثيوبيا في القرن الإفريقي، يجعلها دولة ذات أهمية كبرى لمصالح الحكومات الغربية، خاصة الولايات المتحدة.

موقع إثيوبيا يجعلها دولة استراتيجية للحفاظ على سلامة طرق التجارة البحرية المارة بالبحر الأحمر، ولمحاربة القرصنة في المنطقة. تمثل إثيوبيا أيضا شريكا أساسيا للولايات المتحدة في محاربة الإرهاب، نظرا لقرب إثيوبيا من الصومال التي يتواجد بها مجموعة الشباب التابعة للقاعدة وجماعات أخرى، تتبع داعش. كما تلعب إثيوبيا دورا في تحقيق الاستقرار بجنوب السودان. بالإضافة إلى أن تقارب واشنطن مع إثيوبيا يسعى للحد من تأثير قوى منافسة (مثل الصين وروسيا) في إفريقيا. تلك العوامل جعلت الولايات المتحدة تتحالف مع الحكومات الإثيوبية المتعاقبة التي سبقت آبي أحمد، بغض النظر عن انتهاكات تلك الحكومات لحقوق الإنسان. واستمر هذا التقارب في ظل حكم آبي أحمد، حتى تدهورت العلاقات مع احتداد الصراع في تيجراي.

مثل الولايات المتحدة، ترى الدول الأوروبية أيضا إثيوبيا كشريك استراتيجي في إفريقيا لحماية التجارة الدولية ومحاربة الإرهاب. ويضاف على هذا أيضا، أن اثيوبيا هي ثاني أكبر دولة إفريقية من حيث تعداد السكان، مما يجعلها مصدرا رئيسيا للهجرة غير القانونية المتجهة لأوروبا، ويمر بها خطوط الهجرة غير القانونية القادمة من دول إفريقية أخرى. ولهذا تمثل العلاقات الأوروبية- الإثيوبية حجر أساس لمكافحة الهجرة غير القانونية القادمة من إفريقيا.

وجه آبي أحمد ينكشف

برهان كيدانيماريام (الدبلوماسي الإثيوبي الذي جمعته صداقة بآبي أحمد، دامت لأكثر من 20 سنة والذي استقال احتجاجا على حرب تيجراي)، قال في إحدى اللقاءات، إنه وجد تناقضا صارخا بين الصورة الخارجية الأولية لآبي أحمد والشخصية التي عرفها بشكل شخصي، فلقد وصف كيدانيماريام آبي أحمد، بأنه ضابط استخبارات “متعطش للسلطة ومهووس بالشهرة والثروة.”

هذا ما اتضح بعد شهور قليلة من تولي آبي أحمد للسلطة، حيث أن السلطوية والاستئثار بالسلطة أصبحا سمات حكمه. في 2020 تصاعدت تظاهرات على خلفية مقتل مغني من الأورمو، عرف بأغانيه التي تعبر عن معاناة الأورمو (القومية التي ينتمي لها آبي أحمد). فردت حكومة آبي أحمد على التظاهرات بقطع الإنترنت وقمع التظاهرات بعنف شديد والقبض على زعماء من المعارضة. ومع مرور الوقت اشتدت سلطوية آبي أحمد بقمع التظاهرات المعارضة وحبس الصحفيين والمعارضين. بالإضافة الى تأجيله الانتخابات، وعندما أجراها انتهت بفوز حزبه في ظل مناخ انتخابي، يشوبه عدم النزاهة وانتهاكات عديدة ضد المعارضة شملت قمع قيادات الأحزاب؛ لمنعهم من الاستعداد للانتخابات مع منع المصوتين والمراقبين من المشاركة في العملية الانتخابية.

من المفارقات، أن الرجل الذي صرح أن “الحرب تجسيد للجحيم” (خلال حفل تسلمه جائزة نوبل)، هو بنفسه الذي أعلن الحرب في تيجراي. تأجيل آبي أحمد للانتخابات، واستبدال التحالف التوافقي الذي جمع القوى الإثيوبية (الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية) بحزب الازدهار الذي يهيمن عليه أثار استياء الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، وأجج الصراع مع الحكومة المركزية، مما انتهى بإعلان آبي أحمد الحرب ضد الجبهة الشعبية. فبدلا من أن يخمد رجل السلام الصراع، أشعل حربا أهلية دموية داخل بلاده.

ولم تتوقف فظائع آبي أحمد عند هذا الحد. لقد وثقت التقارير الحقوقية الصادرة من المؤسسات الأممية ومنظمات حقوق الإنسان تورط الحكومة الإثيوبية والميلشيات الحليفة في جرائم ضد الإنسانية ضد التيجريين المدنيين، تصل للإبادة الجماعية، ومن بين تلك الجرائم التحريض على العنف العرقي، ووقائع قتل واعتقال وإخفاء قسري، وتجويع السكان، والتهجير القسري، بالإضافة إلى العنف الجنسي واغتصاب النساء. في 2022، بعد سنوات من الصراع، تم إبرام اتفاق سلام؛ لإنهاء الحرب في تيجراي. ولكن إنهاء الحرب في تيجراي لم يخمد الصراعات في إثيوبيا، حيث نشب صراع آخر في إقليم أمهرة بين الحكومة المركزية ومليشيات الفانو بعد محاولات الحكومة لتفكيكها.

انتهى شهر العسل

حالة الثناء والمديح لآبي أحمد التي سادت الصحافة الغربية، انحسرت تماما اليوم. أصبحت الصحافة العالمية ترى في آبي أحمد زعيما سلطويا، يشعل الحروب الدامية. سياسات وممارسات آبي أحمد، شوهت صورته بدرجة مهولة، ليتحول إلى شخصية منبوذة عالميا.

حرب تيجراي المطولة، والفظائع التي ارتكبت فيها، كانت القشة التي أنهت شهر العسل بين الحكومات الغربية وآبي أحمد. اتخذت الدول الغربية إجراءات ضد حليفها السابق لمحاولة وقف الحرب. فرضت واشنطن عقوبات على جميع الأطراف المتورطة في الصراع.  كما قيدت تأشيرات المسئولين من إثيوبيا وإرتيريا لدورهم في إطالة الصراع. بالإضافة إلى أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية علقت مساعدات الطعام لإثيوبيا بسبب؛ اكتشاف تورط الأطراف المتصارعة في تيجراي، بينهم الحكومة الإثيوبية، في سرقة المساعدات.

أما الاتحاد الأوروبي، فلقد علق مساعداته لإثيوبيا. لم يصل الاتحاد الأوروبي لتوافق بشأن تطبيق عقوبات اقتصادية على مسؤولي الحكومة المركزية، ولكن الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، نادى بتطبيق عقوبات. كما وجه الاتحاد الأوروبي النقد لآبي أحمد لفشله في ضمان انتخابات مستقلة. فرنسا أيضا علقت تعاونها العسكري مع إثيوبيا.

عودة غربية محتاطة

ربما قد يكون شهر العسل بين آبي أحمد، والقوى الغربية انتهى للأبد، ولكن هذا لا يعني نهاية العلاقات. عقب إبرام اتفاق السلام في تيجراي، ومنذ 2023 تحديدا، بدأت العلاقات الإثيوبية- الغربية بالتحسن نسبيا.

لقد رفع البيت الأبيض بعض القيود على المساعدات في ضوء ما اعتبرته واشنطن تحسنا في ملف حقوق الإنسان. وأعلنت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، بأن المساعدات الإنسانية ستعود بعد تطبيق ضوابط جديدة، تمنع تكرار الفساد والسرقة. كما قابل أنتوني بلينكن (وزير الخارجية الأمريكي) المسئولين الإثيوبيين في أديس أبابا لإصلاح العلاقات الثنائية.

ولكن برغم هذا، العقوبات الأمريكية لا تزال سارية. فلقد قرر الرئيس جو بايدن تجديد العقوبات المفروضة لمدة أخرى، بعد أن كانت ستنتهي في سبتمبر 2024. وعلل بايدن تجديد العقوبات، بأن الوضع في إثيوبيا يهدد الأمن القومي والسياسة الخارجية لواشنطن.

تظهر أيضا بوادر لعودة العلاقات مع الجانب الأوروبي. خلال مؤتمر صحفي مشترك بين مفوضة الاتحاد الأوروبي للشراكات الدولية ووزير المالية الإثيوبي، تعهد الاتحاد الأوروبي بحزمة مساعدات بقيمة 650 مليون يورو من بين المساعدات التي علقها الاتحاد الأوروبي سابقا، ولكن شددت المفوضة بأن عودة المساعدات مشروطة بتطبيق إصلاحات صندوق النقد الدولي، فضلا عن شروط سياسية أخرى لم توضحها. كما استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون آبي أحمد في قصر الإليزيه، حيث طلب رئيس الوزراء الإثيوبي من فرنسا الاستثمار في بلاده، وتحدث المسئولون الفرنسيون وقتها عن عودة تدريجية للعلاقات. وقبيل تلك الزيارة، نجح آبي أحمد في الحصول على مساعدات من الحكومة الإيطالية بقيمة 182 مليون يورو.

المصالح تمنع القطيعة

لا مجال لعودة صورة آبي أحمد الأولى كزعيم ديمقراطي مصلح مجددا. فلم يمر وقت طويل، حتى انكشف وجهه الحقيقي. ولم يظهر وجه آبي أحمد السلطوي الذي يقمع المعارضة ويستأثر بالسلطة فقط، ولكن انجلى أيضا له وجه مروع، يشعل الحروب العرقية الدامية، ويرتكب جرائم ضد الإنسانية.

انخدع المراقبون والمهتمون والمسئولون في الغرب بالمظهر الزائف الذي صنعه آبي أحمد. فاعتقدوا أنه يمثل الأمل الذي سينتشل إثيوبيا والقارة الإفريقية من الاستبداد والصراعات. ولكن أحبط آبي أحمد التطلعات الغربية. فتحول من حليف، تثق به القوى الغربية إلى شخصية مكروهة، لا يُعتمد عليها. وهذا التحول لم يكن نتيجة انتهاكات أحمد لحقوق الانسان فقط، ولكن أيضا لدوره في إثارة الصراعات التي تهدد استقرار القرن الإفريقي، وبالتالي تهديد المصالح الغربية في المنطقة.

ولكن العلاقات الإثيوبية-الغربية لم تُبتر بشكل نهائي. فمن جانب، الاقتصاد الإثيوبي المأزوم بحاجة ملحة للدعم والمساعدات الغربية. وعلى الجانب الآخر، تمثل إثيوبيا دولة استراتيجية، تضمن استقرار القرن الإفريقي، وتحافظ على المصالح الغربية المرتبطة بالتجارة، ومواجهة الإرهاب ومحاربة القرصنة والحد من الهجرة غير القانونية. ولهذا في الوقت الحالي، يرمم الطرفان الإثيوبي والغربي العلاقات بينهما بشكل تدريجي. ولكن النظرة الغربية لآبي أحمد الآن، أصبحت تتسم بالريبة، وخالية من التفاؤل المفرط، الذي انتهى بخيبات كارثية.