كتب- محمود هاشم

في الأسبوع الأخير من يونيو الفائت، صدق الرئيس عبد الفتاح السيسي، على مشروع قانون منح التزام المرافق العامة لإنشاء وإدارة وتشغيل المنشآت الصحية.

وهو القانون الذي يسمح للقطاع الخاص بإدارة وتشغيل المنشآت الصحية الحكومية، من خلال شراكات مع الجهات الحكومية المختلفة.

ويبلغ عدد المستشفيات في مصر 1798 مستشفى، تضم 121617 سريراً إلى جانب 5424 منشأة صحية، ومركزاً، إلى جانب وجود 1565 سيارة إسعاف، وفق تقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري في عام 2022.

وبينما يصل معدل الإنفاق الحكومي على قطاع الصحة، بلغ 32 مليار جنيه في 2014، ووصل حالياً إلى 222 مليار جنيه، فإن  نسبة الإنفاق السنوي للأسر المصرية على خدمات الرعاية الصحية، بلغت 10.4 في المئة عام 2019 -2022، لتحتل بذلك المرتبة الثالثة من جهة الأهمية على قائمة أولويات الإنفاق.

وألزم الدستور المصري في المادة (18) الدولة تخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة، لا تقل عن ثلاثة في المئة من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجياً، حتى تتفق مع المعدلات العالمية، وكذلك بإقامة نظام تأمين صحي شامل لجميع المصريين، يغطي كل الأمراض.

الخوف والغضب والقلق.. المرضى يترقبون

يتملك القلق “مريم” السيدة الثلاثينية التي انتقلت، وأسرتها من العلاج في المستشفيات الخاصة، إلى نظيرتها العامة، بعد أن ارتفعت التكلفة، لما يفوق قداراتها، والآن هي في حالة رعب من ارتفاع تكلفة العلاج في المستشفيات العامة بعد إقرار القانون الجديد؛ لأن دخلها كموظفة في إحدى شركات القطاع الخاص الصغيرة، يكفي بالكاد متطلبات إطعام ابنتيها الصغيرتين وتعليمهما.

بينما يبدو “أشرف محمود”غاضباً أكثر منه قلقاً أو حزينا، فقد اكتشف مؤخراً، أنه مصاب بأحد الأمراض المزمنة.

يقول أشرف، وهو موظف حكومي: “الرعاية الصحية حق إنساني، وليست سلعة تُباع؛ لمن يملك المال، نحن نعيش في بلد، يحتاج فيه كل شخص إلى رعاية صحية بأسعار مدعمة، وربما مجانية مع انتشار الأوبة والأمراض المستحدثة والمزمنة بخلاف الأمراض الموسمية، ولكن الخصخصة، تعني أن من يستطيع الدفع فقط هو من سيحصل على العلاج، واستكمال الحياة بدون ألم”.

في مستشفى معهد ناصر، التقينا هالة سيد البالغة من العمر 42 عاماً، وتعالج من ارتفاع مزمن في ضغط الدم، وببساطة قالت: “إذا ارتفعت تكلفة العلاج في المستشفيات العامة، سأضطر للعمل على نصبة شاي في مواقف الميكروباصات، ولكني أخشى ألا استطيع تحمل الجهد؛ بسبب مرضي المزمن”.

إقرار متعجل.. يعوق تطبيق التأمين الصحي الشامل

الدكتور علاء غنام خبير السياسات والتشريعات الصحية، لا يخفي تخوفه من  تأثيرات هذا القانون، الذي اعتبره خطوة نحو تسليع الخدمات العامة، وتحويل الصحة، وكما التعليم والنقل إلى نشاطات ربحية.

 ويحذر من أن هذا القانون يعطل تنفيذ التأمين الصحي الشامل، وينحرف بالمسار نحو تحويل المستشفيات الحكومية إلى كيانات هادفة للربح.

وانتقد غنام التعجل في مناقشة القانون، حيث تم إقراره في أقل من شهر، دونما انتظار لائحته التنفيذية، ما يثير تساؤلات حول قدرة الحكومة على مراقبة المستشفيات المستأجرة، خاصة أن الحكومة لم تُظهر قدرة كافية على الإشراف على المستشفيات الحالية، حسب تعبيره، مما يجعل الرقابة على المستشفيات الجديدة مسألة مثيرة للقلق.

ولفت إلى تجربة جائحة كوفيد-19، والتي أظهرت عجز القطاع الخاص عن تقديم خدمات متكاملة في أوقات الأزمات.

د. غنام مسئول الحق فى الصحة فى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، شدد على أن الرعاية الصحية حق إنساني مرتبط بالحق في الحياة، ولا يجوز أن تخضع لقوانين السوق.

وأضاف مستشهداً بالدراسات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية ومدرسة لندن لاقتصاد الصحة: “يقع توزيع عبء المرض على النحو التالي: 40% من السكان أصحاء، 40% أصحاء مع عوامل خطر مثل، السمنة والتدخين، 10% يعانون من أمراض مزمنة كالضغط والسكر، و10% يواجهون أمراضًا حادة مهددة للحياة، تتطلب تدخلات سريعة في غرف عمليات أو عنايات مركزة، والإحصائيات تُظهر أن حوالي 80% من السكان بحاجة إلى رعاية صحية أساسية، يمكن تقديمها في وحدات الرعاية الأولية، فيما يحتاج 20% فقط إلى رعاية متقدمة”.

وتابع: “تراجع الاستثمار في الرعاية الصحية الأولية أدى إلى زيادة الضغط على المستشفيات، ما رفع من تكاليف الخدمة الصحية، وحوّل الرعاية إلى سلعة، تتبع قواعد العرض والطلب، وهذا التحول جعل المواطن العادي مجبرًا على دفع مبالغ طائلة للحصول على الرعاية اللازمة، خاصة في حالات الأمراض الحادة التي تتطلب العناية المركزة.

د. علاء غنام قال، إن مفهوم تسليع الرعاية الصحية، بمعني تحويلها إلى سلعة، تخضع لقواعد السوق، لتصبح متاحة لمن يملك القدرة المالية فقط، يتعارض مع فكرة الرعاية الصحية كحق إنساني.

ورفض فكرة ربط جودة الخدمة المقدمة بخصخصتها قائلا: “الخدمات الصحية الجيدة لا تعني تسليع الخدمة، فأهمية جودة الخدمة في مستوى الرعاية الأساسية تأتي، باعتبارها عنصرًا رئيسيًا في الحماية الصحية الشاملة، خاصة في البلدان متوسطة ومنخفضة الدخل مثل مصر”.

ويشرح رؤيته بشكل أكثر وضوحا عبر نظرية “أثر جناحي الفراشة” قائلا: “رفرفة جناحي الفراشة– الرعاية الأساسية والتأمين الصحي الشامل– قادرتان على إحداث تغيير جذري في النظم الصحية، لتحولها من نظام سوقي، يهدف ويعتمد على الربح إلى نظام قائم على حقوق المواطنين”.

وشدد غنام، على أن الرعاية الصحية يجب أن تبقى حقًا إنسانيًا قابلًا للتنفيذ، وليس سلعة تتحكم فيها قواعد الأسواق، مطالبًا بتوجيه الاستثمارات نحو الرعاية الأساسية والتأمين الصحي الشامل كحلول حاسمة.

الأطباء.. الخصخصة تهديد مباشر

كما المرضى والخبراء يشعر الأطباء بالقلق من القانون الجديد، يقول الدكتور سامي، أختصاصي جراحة عامة في مستشفى حكومي بمحافظة القليوبية، إن “الخصخصة ليست مجرد تغيير إداري، بل هي تهديد مباشر لحقوق المواطنين في الحصول على الرعاية الصحية، بأسعار على قدر إمكانياتهم الاقتصادية، نحن نتحدث عن حياة الناس، وليس مجرد أرقام في تقارير مالية.

وترى الدكتورة فاطمة، طبيبة نساء وتوليد في المستشفى نفسه، أن “الضغط الذي نعاني منه في المستشفيات الحكومية؛ بسبب نقص الموارد يعكس التحديات الحقيقية التي تواجه نظام الرعاية الصحية في مصر، وخصخصة المستشفيات العامة، قد تفاقم  هذا الضغط”.

وتتابع: أحد المرضى المترددين عل العيادة، لم يستطع شراء وسيلة منع حمل؛ فلجأ إلى قتل الجنين بطرق تقليدية، ما سبب نزيف للأم كل ذلك لعدم القدرة على شراء شريط برشام، لا يتخطى الـ 150جنيها، فكيف سيصبح الحال بعد الخصخصة ورفع أسعار الخدمة الصحية.

ويعبر الدكتور مينا، طبيب باطني، عن قلقه من تأثير الخصخصة على العلاقة التقليدية بين الأطباء والمرضى، قائلاً: “عندما يتحول الطبيب إلى مجرد موظف في شركة طبية خاصة، فإن ذلك يغير جوهر العلاقة الإنسانية التي تربطنا بالمرضى”.

ويتابع:”سنجد أنفسنا مجبرين على اتخاذ قرارات طبية بناء على المعايير المالية، وليس بناء على ما هو أفضل للمرضى، هذا يعد خيانة للقسم ولواجبنا كأطباء”.

ويتخوف  الدكتور أحمد سيد، طبيب جراح، من تأثير الخصخصة قائلاً: “أخشى أن يصبح دورنا مقيدًا، إذا كنا مضطرين للاعتماد على المعايير المالية، وألا نستطيع اتخاذ القرارات اللازمة لعلاج المرضى بالطريقة المناسبة، لاستكمال حياتهم دون ألم”.

وأضاف: “إذا استمرت الأمور بهذا الشكل، فإننا نتحدث عن مستقبل غير واضح لمهنة الطب في مصر”.

نساؤلات حول مصير الطواقم الطبية

انتقد أسامة عبد الحي، نقيب الأطباء، قانون إدارة المستشفيات لافتقاره إلى التفاصيل اللازمة لحماية حقوق الأطقم الطبية والإدارية، موضحاً أن النصوص الحالية تتيح بقاء 25% فقط من الكوادر الطبية، ما قد يؤدي إلى تكدس في بعض المستشفيات، ويخلق فجوات في أخرى، في ظل غياب أي إجابات واضحة من الحكومة بشأن مصير الطواقم الطبية.

وحذر عبد الحي، من تداعيات استحواذ القطاع الخاص على المستشفيات الحكومية، وأن كاشفا في الوقت نفسه عن أهمية القطاع الخاص في تعزيز المنظومة الصحية، مطالباً ضرورة تشجيعه ومنحه الحوافز المناسبة؛ لبناء مستشفيات جديدة، وهو ما يصب في مصلحة المرضى، ويعزز جودة الخدمات الطبية في مصر.

وحذرت الدكتورة منى مينا، أمين عام نقابة الأطباء الأسبق، من أن القانون الجديد سيؤدي إلى ارتفاع كبير في تكاليف العلاج، بما فيها الفحوصات الطبية والعمليات الجراحية، ما يضاعف من أعباء المواطنين، خاصة الفقراء.

وأشارت إلى أن أمراضًا مثل الأورام ستكون الأكثر تضررًا، حيث أن تكاليف علاجها باهظة حتى للفئات المتوسطة.

كما أعربت عن مخاوفها بشأن مصير الطواقم الطبية، متسائلة عن كيفية اختيار من سيتم الاستغناء عنه من الأطباء.

وحذرت من خطر المحسوبيات والتمييز في هذه العملية، مضيفة أن غياب الشفافية حول آليات تطبيق القانون، يزيد من قلق الأطقم الطبية حول مستقبلهم.

قانون لخدمة الأغنياء

أعرب النائب إيهاب منصور، رئيس الهيئة البرلمانية للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، عن رفضه الشديد لخصخصة الخدمة الصحية، وقال إن القانون، رغم تظاهره بالسعي لتطوير الخدمات الصحية، يخدم الأغنياء فقط، بينما يترك الفقراء في مواجهة تكاليف علاج مرتفعة وغير مبررة.

واعتبر أن الأزمة الحقيقية في النظام الصحي تكمن في نقص الأسرة، الأدوية، والمستشفيات، والقانون المقترح لا يقدم حلولًا واضحة لهذه المشكلات الجوهرية.

كما أن القانون يفتقر إلى البيانات والإحصائيات اللازمة لضمان شفافية التطبيق، والحكومة لم تقدم توضيحات كافية حول كيفية تنفيذه، في تكرار لما حدث مع قانون التصالح، حسب النائب إيهاب منصور.

وطالب بإدخال تعديلات أساسية على القانون، لضمان حماية حقوق المنتفعين بالتأمين الصحي الشامل، والحفاظ على الخدمات الصحية المجانية التي تلتزم الدولة بتوفيرها وفقًا للدستور.

وشدد على ضرورة حماية العاملين بالمستشفيات، منتقدًا النص  الذي يسمح بالإبقاء على 25% فقط من العاملين، دون توضيح لكيفية حماية حقوقهم، معتبرًا أن هذا يمثل تهديدًا خطيرًا لاستقرار العاملين في القطاع الصحي.

الدكتورة إيناس عبد الحليم، عضو لجنة الصحة بمجلس النواب، قالت إن القانون الجديد يسمح باستقدام أطباء عالميين لعلاج المرضى داخل مصر، مما يوفر على المواطنين تكاليف السفر إلى الخارج.

وأكدت أن الطواقم الطبية المحلية سيعاد توزيعها على المستشفيات المتخصصة، دون التأثير على حقوقهم، مع ضمان منح الأطباء الأجانب رخصة لمزاولة المهنة داخل المستشفيات فقط.

 وشددت على أن لجنة من رئاسة مجلس الوزراء ستشرف على اختيار المستثمرين لإدارة المنشآت الطبية بكفاءة لخدمة المواطنين.