في العشرية الأخيرة، حدث إنجاز ملموس في مسار نظامنا الصحي الحديث، عقب صعوبات واجهته، منذ نصف قرن على الأقل في جوانب حوكمته، وتنظيم إدارته وتمويله، وكان هذا الإنجاز هو النجاح في إقرار المادة 18 من الدستور، ثم تبعها إنجاز الموافقة والتصديق على قانون أساس الرعاية الصحية، يتمثل في نظام جديد للتأمين الصحي الشامل الذي يهدف؛ لتحقيق الحق في الرعاية الصحية لكل المصريين، دون تمييز، وللأسرة المصرية لحمايتها من العبء المالي للمرض، وإلى إتاحة خدمات صحية بجودة مستعينا بكافة الإمكانيات الصحية المتاحة في البلاد سواء، كانت في القطاع الخاص أو القطاع الأهلي الذي تنامي في العقود الأخيرة.
وذلك بشراء الخدمات منهما وفق قواعد ومعايير محددة للتسعير والجودة،
وذلك يمثل تحديا أساسيا، يستحق مزيد من الإيضاح لمفهوم تلك الشراكة.
وحتى يحقق نظام التأمين الصحي مستهدفاته بشكل حقيقي وملموس على القائمين على تنفيذه القيام بعملية إصلاح كاملة للنظام الصحي بشكل، يتواكب مع أساسيات التنفيذ لهذا الحلم.
فعملية الإصلاح هذه تتسم بالتعقيد الشديد، خاصة في ظل نظام صحي قديم “مفتت”.
يقتضي تغييره التغلب على مقاومة شديدة من جهات متعددة، ترفض التغيير؛ لأنها مستفيدة من الفوضى الحالية القائمة والراسخة.
ولذلك يتطلب الإصلاح قيادات على درجة عالية من الكفاءة والخبرة، والفهم السياسي، وندرة مثل هذه الكفاءات في مصر وبلدان العالم النامي عموماً، هي المعضلة.
وبعض القيادات الحالية، لا يدركون غالبا، أن إعطاء الأوامر والتكليفات للمستويات الأدنى في النظام لا يكفي في هذا المجال.
(فلدينا غالباً مئات الجنرالات وعشرات الجنود على الأرض، مما يجعل تلقي الأوامر أقرب للتمني من إمكانية التنفيذ الفعلي)
فعملية الإصلاح للنظام، تختلف عن إجراء عملية جراحية في غرفة عمليات، حيث يشمل الإصلاح العديد من المهام الأساسية التنظيمية.
(وضع ما يسمي بخطة حاكمة أساسية master plan، وتطوير تنفيذ تشكيل فريق مرن كفء؛ لتنفيذ تلك الخطة ووضع مهام محددة له وفق جداول زمنية، وتنسيقها والتحفيز والاستجابة للتغذية المرتدة من متابعي التنفيذ من القائمين على العمل دوريا.. إلخ)
معنى المشاركة
في هذا السياق في الآونة الأخيرة، طرحت في المناقشات العامة اتجاهات، تشجع ضرورة الشراكة مع القطاعين الخاص والأهلي اللذين، يقدمان خدمات صحية ناجحة لدعم النظام الصحي العام الحكومي.
ولأن هذه النماذج حققت نجاحات في إدارة المشاريع والمستشفيات الخاصة والأهلية معاً، كما طرح اتجاه الاستعانة بهما أيضاً (بقانون أخير) لإدارة وتشغيل المستشفيات العامة لضمان كفاءة التشغيل، وتخفف الحكومة النسبي من المسئوليات المباشرة لتمويل وإدارة تلك المنشآت العامة.
وفي هذا الإطار، يجب أن نعود إلى التاريخ الصحي في العقود السابقة؛ لفهم الأمر على وجهه الحقيقي وخطورته.
عندما تخلت الدولة عن بعض أدوارها الأساسية في الصحة والتعليم منذ بداية الثمانينات (نظام الاقتصاد الحر)؛ فنشأت لأسباب مختلفة شبكات من المستشفيات والعيادات الخاصة (للأغنياء) وشبكات من المستوصفات الصغيرة والمستشفيات الأهلية المتوسطة والصغيرة (للفئات المتوسطة والفقيرة) في أغلب المدن، والأحياء وبعض المناطق الريفية والعشوائية؛ لتقديم خدمات أولية وثانوية، كما تنامى العلاج بأجر اقتصادي ورمزي أحيانا داخل القطاعات الصحية العامة أيضا.
ولعجز موازنات الحكومة عن تمويلها، بحيث أصبحت الصورة الكلية تشي بتحمل الناس عموما أكثر من 60% من الإنفاق الكلي للحصول على الخدمات والرعاية الصحية.
وظلت هذه القطاعات الخاصة والأهلية تلبي دورا بديلا، ومهما للناس، لكنه لم يكن أبدا الدور الأمثل في كل الأحوال في توفير خدمات ذات جودة، أو إنصاف يحقق حلم العدالة الاجتماعية في الرعاية الصحية.
فلا يمكن في هكذا نظام الاستغناء مثلا، عن وسائل النقل العام الكبيرة اعتمادا على تعميم استخدام وسائل نقل أقل منها وبأجر مبالغ فيه.
وكذا الأمر في القطاع الطبي، ولذا صدر قانون التأمين الصحي الشامل الجديد؛ ليعيد للدولة دورها الحاكم في ضمان الحماية الصحية للمواطنين، خاصة الأقل قدرة على تحمل تكاليف عبء الأمراض ماليا، وأخذت بذلك مهمة إعادة بناء النظام الصحي العام وإصلاحه، وتكامله عبر نظام موحد شامل يمول بطريقة مستدامة، من خلال التأمين الصحي الذي تدعمه ملاءة مالية قوية وقادرة على شراء خدمات صحية بجودة معتمدة، من جميع القطاعات التي تقدم الخدمة سواء كانت عامة أو خاصة أو أهلية.
في هذا الاتجاه الاستراتيجي، تصبح مفاهيم الشراكة أكثر فاعلية وتحديدا وإمكانية، ولكن كيف؟
فهل هو ضروري للمساعدة في تحقيق هدف الإصلاح الجوهري في النظم الصحية الشاملة لكل السكان، وبالتالي التعامل معه كمقدم للخدمة لديه بنية تحتية قائمة بالفعل، وتم إنفاق الملايين عليها.
حيث يعد استثمارا وطنيا، يستفاد منه، ويحقق سياسات تضمن دورا له، يعزز إتاحة جغرافية في الخطة الكلية من خلال التعاقد معه وفق معايير وشروط الجودة؛ ليوفر على الدولة أعباء توفير تمويل إنشاءات صحية جديدة، وأجهزة وخلافه، تبحث بعدها، عمن يديرها أو يشغلها كما لو (كانت؟؟ هي الفلسفة والاستراتيجية).
من هنا، نضع الملاحظات التالية الأساسية، حول ما يحدث الآن حول فكرة الشراكة المطروحة لدفعها في الاتجاه الصحيح المتزامن مع البرنامج الصحي الاستراتيجي، لتنفيذ نظام صحي تأميني شامل ومنصف.
أولا: في إشكالية إدارة الخدمات الصحية من المهم بطبيعة الحال، أن توكل الإدارة للأكفاء والأكثر احترافية أيا كانوا، ولكن وفق عقود عمل مدروسة جيداً (بلا تخل عن الملكية للمنشأة أو تأجيرها)، وهذا يستلزم الاعتماد على أساليب اختيار مبنية على معايير علمية محددة، لمن يتم اختيارهم للإدارة السليمة من مؤهلات وخبرات.
ثانياً: الأهم من الإدارة في هذا المجال، هو تحديد الطرف الذي سيدفع فاتورة هذه الخدمات الصحية، ولعله يكون مفهوما، أن ذلك سيتم في إطار تطوير نظام تأميني شامل جديد، يؤسس فيه صندوق مالي لتوزيع مخاطر المرض “risk pool”، يمتلك ملاءة مالية مستدامة من أموال المشتركين (الناس)، ويشمل كل المواطنين (غني أو فقير) دون تخارج، خاصة الفئة الأغنى في المجتمع، ويتم تقوية هذا الصندوق من المصادر الثلاثة المحددة في القانون.
ثالثا: إذا نظرنا إلى من يعملون في هذه القطاعات الصحية الخاصة أو الأهلية، من أطباء وتمريض وفئات مساعدة؛ فسنجدهم هم أنفسهم أطباء القطاع الحكومي في الجامعات وفي وزارة الصحة الذين يبحثون عن فرص عمل إضافية؛ لزيادة دخولهم، مما يؤكد الاحتياج إلى إجراء دراسات معمقة وتحليلية عن الشراكة، وكيفية فض هذا الاشتباك للممارسة المزدوجة، وهنا لا بد من إقرار سياسات، توحيد أساليب الدفع المالي لهم في كل من القطاع الحكومي أو الخاص، بحيث تتوقف عملية ازدواج الممارسة؛ فالمبدأ هو طبيب واحد لمكان واحد بأجر واحد مع تمييز المتميز أيا كان نطاق عمله.
الخلاصةفي هذه العلاقة، هي ضرورة الشراكة بين كل من القطاعات الصحية الخدمية عامة وخاصة وأهلية، وكل الإمكانيات المتاحة، ولكن وفق مخطط استراتيجي منضبط لأداء أدوار محددة في تقديم الخدمة الصحية أو تمويلها أو إتاحتها، أو التعاقد على شرائها لحساب المواطنين عبر صندوق التأمين الصحي الشامل، وهذا ما تم تجريبه سابقاً في برنامج الإصلاح الصحي منذ عام 1999 (موثق في وثائق وزارة الصحة).
فهل نتعلم الدرس؟ ونبدأ من حيث توقفنا.. نرجو ذلك.