يحارب لبنان معركة مصيره.. شبه وحيد عربيا وشبه محاصر دوليا.

بتسارع لافت، تتبدى فوق مسرحه السياسي، الذي تشتعل النيران في جنباته، محاولات جره إلى حرب أهلية جديدة، تفرض عليه ترتيبات سياسية؛ تجعل لإسرائيل الكلمة العليا في أدق شؤونه وكل معادلاته.

في استثمار سياسي مبكر، أعاد “سمير جعجع” رئيس حزب القوات اللبنانية طرح اسمه مرشحا لرئاسة الجمهورية.

بدت دعوته لمؤتمر موسع في مقر حزبه بـ “معراب”، يستثني الثنائي الشيعي حزب الله وحركة أمل، تعبيرا مبكرا عن ترتيبات وأوضاع، يراد لها أن تتكرس، إذا ما نجحت القوات الإسرائيلية في فرض كلمتها على الميدان، وهو ما لم يحدث حتى الآن.

لم تكن هناك استجابة لدعوته خشية عواقبها الوخيمة، أو إعادة تكرار الأجواء والتداعيات، التي صاحبت اتفاقية (17) مايو/ أيار (1983).

العودة إلى سلام يفرض تحت الحراب الإسرائيلية وهم كامل.

أسقطت القوى الوطنية اللبنانية، قبل أن تقوى شوكة حزب الله فاعلا رئيسيا، تلك الاتفاقية وأفشلت معها وقبلها الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة بيروت.

في مؤتمر حاشد بشارع الحمراء عام (1985)، أخذ مئات الشبان يهتفون من قلوبهم، بنوع من الفخر والاعتزاز بالدور الذي لعبوه في إجبار إسرائيل على الانسحاب: “يا بيروت من حماكي”.. قبل أن يرودوا على سؤالهم: “الاتحاد الاشتراكي”.

إنها القوى الوطنية والقومية، التي بدأت المقاومة في شوارع بيروت المحتلة منذ اليوم الأول.

لم يكن انتخاب قائد حزب الكتائب “بشير الجميل” رئيسا للجمهورية في (23) أغسطس (1983) نهاية المطاف، ولا بداية الحقبة الإسرائيلية، فقد اغتيل سريعا في عملية، استهدفت مقره، قام بها “حبيب الشرتوني” الناشط في الحزب السوري القومي الاجتماعي.

لبنان لا يلخصه حزب الله وحده، لكنه يمثل في هذه اللحظة مسئولية المقاومة.

بعد اغتيال “بشير” خلفه شقيقه الأكبر “أمين الجميل” في رئاسة الجمهورية فيما تنافس على موقعه العسكري “سمير جعجع” و”إيلي حبيقة”.

الأول تخلص من الثاني، لكنه لم يتمكن من الصعود إلى موقع رئيس الجمهورية على خلفية إرثه السياسي والجنائي.

دعا “جعجع” في “معراب” إلى: “الذهاب فورا إلى انتخاب رئيس جمهورية جديد، وتشكيل حكومة سيادية، تعمل على إخراج البلد من الحالة المدمرة”، دون أن يعني ذلك، أن فريقا سيكون غالبا وآخر مغلوبا!

حملت العبارة عكس منطوقها، ونكأت مخاوف التاريخ من إعادة إنتاج تجربة (17) مايو/ أيار.

لا يعني فشل مؤتمر “معراب”، أن محاولات جر لبنان إلى الاحتراب الأهلي مجددا سوف تتوقف، أملا في حقبة إسرائيلية لها ترتيبات وأنصار ورجال.

هناك حاجة حقيقية لانتخاب رئيس جمهورية جديد وتشكيل حكومة لها شرعية البت في الملفات الحساسة المطروحة، لكن القفز إلى أي ترتيبات قبل وقف إطلاق النار مقامرة بالبلد تضعه تحت الوصاية، كأنه خسر الحرب، دون أن يكون قد خسرها.

تقاس الحروب بنتائجها السياسية، لا بقدر ما تلحقه من تخريب وتدمير وتشريد وتهديم للبنايات على رؤوس من فيها.

القفز على حقائق الميدان، يدعو بذاته إلى شكوك وريب في حقيقة أهدافه، أهمها وأخطرها نزع سلاح حزب الله وفرض الحقبة الإسرائيلية على لبنان أولا، وتصفية القضية الفلسطينية تاليا.

لا يخفي رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” سعيه لإحداث جراحات في خرائط الشرق الأوسط، إذا ما تمكن من حسم حربيه في غزة والجنوب اللبناني.

لم يحقق حتى الآن أهدافه المعلنة من الحربين، لا اجتث “حماس”، ولا استعاد الرهائن المحتجزين لديها.. ولا فكك البنية العسكرية لحزب الله، ولا أعاد سكان المستوطنات في الشمال الإسرائيلي إلى بيوتهم.

باعتراف “نتنياهو”، كانت الضربة المدوية، التي تلقاها الجيش الإسرائيلي في بنيامينا، صعبة ومؤلمة.

بدا النظام الدفاعي منكشفا بالكامل أمام مُسيرة حديثة، أطلقها حزب الله على الموقع المستهدف، حيث تدريبات لواء “جولاني”.

أثبت حزب الله في الميدان لا في الدعايات، أن مخزونه التسليحي لم يستنزف، كما كانت تعتقد القيادات العسكرية الإسرائيلية، رغم الأضرار الفادحة التي ألمت به، وأن هياكله القيادية تعافت رغم الاغتيالات التي نالت من أهم رؤوسه.

استدعى الدخول المتكرر لأكثر من مليوني إسرائيلي إلى الملاجئ التساؤل، عما إذا كان بوسع الدولة العبرية، أن تتحمل طويلا حرب استنزاف صعبة وقاسية على جبهتي غزة ولبنان؟

بما يشبه الهيستريا عقب ضربة بنيامينا صرخ “نتنياهو”:

“سنضرب لبنان بلا رحمة”.. هذا ما يحدث فعلا بدعم أمريكي كامل.

في اليوم التالي، شن حزب الله هجوما غير مسبوق بصواريخ بالستية.

كانت تلك استعادة لمعادلة الردع، ورسالة أخرى أن الحرب سوف تطول، وأنها سوف تكون مؤلمة لإسرائيل، كما هي مؤلمة للبنان.

بتعبير الشيخ “نعيم قاسم” نائب الأمين العام لحزب الله، فإنها معادلة جديدة، أطلق عليها “معادلة الألم”.

ما زالت المقاومة الفلسطينية تحدث الألم نفسه، رغم الوحشية الإسرائيلية المفرطة، التي وصلت ذروتها بحرق النازحين تحت خيامهم فيما يطلق عليها “خطة الجنرالات” لإخلاء شمال القطاع من سكانه، ودفعهم إلى التهجير القسري إلى سيناء.

من حين لآخر، تتحدث واشنطن دون جدية عن مشروعات سلام في لبنان وغزة، قاصدة أن تحصد إسرائيل بالدبلوماسية، ما عجزت عنه بالسلاح، لكن لا يبدو هناك أفق لأي وقف إطلاق نار.

كان طلب “نتنياهو” سحب قوات اليونيفيل الأممية من جنوب لبنان بذريعة، أن وجودها يعرقل عملياته العسكرية، ويستفيد منها حزب الله تعبيرا عن تصميمه في المضي بالحرب إلى آخر نقطة ممكنة.

وصف “أنطونيو جوتيريش” أمين عام الأمم المتحدة، الاعتداءات على القوات الدولية، بأنها ترقى إلى جريمة حرب دون أن يكون هناك إجراء دولي واحد يردعها.

لم يكن رفض دول أوروبية عديدة كفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا لأي انسحاب لليونيفل؛ حرصا على هيبة المنظمة الدولية بقدر ما كان إدراكا لأهمية وجودها لتسهيل أية تفاهمات، قد تحدث مستقبلا وفق القرار الأممي (1701).

مشكلة هذا القرار في تفسيراته لا في نصوصه.

يستلفت الانتباه بنفس التوقيت مصادرة إسرائيل الأرض المقام عليها مقر وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” بالقدس المحتلة، وتحويلة إلى بؤرة استيطانية جديدة.

إنه الاستهتار المطلق بالمنظمة الدولية والقانون الدولي نفسه.

لم يكن ممكنا لإسرائيل أن تواصل حروبها، إذا لم يكن هناك دعما أمريكيا مطلقا.

حسب ما هو مؤكد، فإنها أمدت آلة الحرب الإسرائيلية بما قيمته (18) مليار دولار بعد السابع من أكتوبر (2023).

في مشاركة كاملة عملية ومباشرة، أمدتها بشبكة الدفاع الجوي الأكثر تطورا “ثاد” بقيادة جنود أمريكيين؛ لحمايتها من أية ضربات إيرانية محتملة.

الحرب الإقليمية، ما زالت محتملة، ولا يوم تال في الأفق القريب على جبهتي غزة ولبنان.

الميدان هو الحكم في النهاية.

الحقيقة الرئيسية، أن المقاومة تحارب معركة المستقبل ومصيره، إذا خسرتها فإن العالم العربي كله سوف يدفع الثمن باهظا.

بقوة المقاومة وإيمانها بعدالة قضيتها، سوف تتبدد الأوهام الجديدة للحقبة الإسرائيلية بأسرع من الأوهام القديمة.