حملت الصواريخ التي أطلقتها إيران على إسرائيل رؤوسا محدودة من المتفجرات، ويفترض أن ترد إسرائيل باستهداف مواقع عسكرية إيرانية، وتبتعد عن استهداف المنشآت النووية والنفطية، كل ذلك بغرض الاستمرار في مواجهة الردع المتبادل التي لا تحسم المعركة بالضربة القاضية، إنما بنقاط محسوبة من كل طرف.
صحيح أن معارك الردع المتبادل مثل المناوشات والمواجهات المحسوبة بالنقاط قد تؤدي إلى مواجهة شاملة عن قصد أو غير قصد، ولكنها باتت استراتيجية معتمدة عربيا وإقليميا وعالميا وتمثل أحد مظاهر الصراع المسلح في العالم كله وهي التي تحكم طبيعة الصراع بين إيران وإسرائيل حتى اللحظة.
والحقيقة أن عالم ما بعد الحرب الباردة شهد نمطا متعددا من الصراعات المسلحة، لم تصل بعد إلى المواجهة الشاملة، بعضها أخذ شكل مناوشات مثل الذي يحدث بين الهند والصين، أو بين الأولى وباكستان، وبعضها أخذ شكل “حروب النقاط الممتدة” مثل الحرب بين روسيا وأوكرانيا التي مثلت نموذجا لحرب كان يمكن أن تحسم في العام الأول بشكل كامل لصالح أحد الطرفين، فمثلا لو تدخل الناتو بشكل مباشر في هذه الحرب، وأرسل قواته وعتاده للحرب مع أوكرانيا، أو لو استخدمت روسيا أسلحة نووية تكتيكية، تقضي فيها على القدرات العسكرية والمدنية الأوكرانية، أو تحارب معها الصين بشكل مباشر، وتنتهي بذلك المعركة مع أوكرانيا، وتندلع معركة عالمية أخرى.
ولأن تبعات هذا النمط من المواجهات قد يؤدي إلي حرب عالمية ثالثة، كما إنه في عالم ما بعد الحرب الباردة نجد أن القوة الكبرى التي تصعد في هجومها في مكان، تكتفي القوة الأخرى بدعم الخصم، ولا تتدخل بشكل مباشر في المواجهة، حدث ذلك في فيتنام، حين احتلتها القوات الأمريكية لفترة، واكتفى الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية بدعم فيتنام، ولم يتدخلوا بشكل مباشر في الحرب، وتكرر نفس الأمر بصورة مختلفة مع روسيا التي غزت أوكرانيا، واكتفت أمريكا والدول الغربية بدعم سخي للأخيرة، دون أن تتورط في تدخل عسكري مباشر.
قواعد المواجهات بالنقاط، تكاد تكون نمطا عاما في الصراعات الدولية، فنموذج الحرب الروسية الأوكرانية المستمرة منذ أكثر من عامين، وليس فيها انتصار حاسم لطرف، لأن الانتصار الأوكراني يعني هزيمة الجيش الروسي وانسحابه، وهو أمر لن تسمح به موسكو، حتى لو تراجعت في ساحة المعركة، أما مسألة انتصار روسيا، فهي واردة، لأنها تعني الاكتفاء بالسيطرة على الأقاليم التي ضمتها للاتحاد الروسي أو على الأقل إقليمين من هذه الأقاليم الأربعة.
والحقيقة، أن مواجهات “حافة الهاوية” وحروب النقاط الممتدة، والتي تشهد كرا وفرا، دون تقدم ميداني حاسم لأي طرف، كما جرى على مدار عام بين حزب الله وإسرائيل، أو ضربات محسوبة “بالسنتيمتر” تفتح الباب، إما إلى تسوية سلمية في حال عدم وجود تناقضات عميقة بين المتحاربين، أو تستمر كنمط معتمد وممتد للصراع بين الجانبين، كما هو حال إيران وإسرائيل حتى اللحظة، أو تتحول إلى مواجهة شاملة في ظروف محددة واستثنائية.
دعم الدول لحلفائها، تتم أيضا بحساب، فسنجد مثلا دعم صيني لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، إلا أنها تتجنب القيام بتحركات واسعة أو دعم ظاهر أو زائد، قد يثير غضب الغرب، وفي نفس الوقت، حافظت على علاقتها الاستراتيجية بروسيا، دون أن تتورط عسكريا في الصراع، وقدمت لها مساعدات خفية، تظل أقل بكثير، مما تقدمه واشنطن لأوكرانيا.
ونفس الأمر، ينسحب على طريقة دعم إيران لحزب الله، فهي بالتأكيد تقدم له دعما كبيرا، ولكنها لم تتورط في إرسال جنود أو قوات من الحرس الثوري، تقاتل مع حزب الله في لبنان؛ لأنها تعلم أنها لو فعلت ذلك ستخرج من حسابات “الردع بالنقاط”، وتدخل في دائرة المواجهة الشاملة التي لا تريدها.
ولذا يبدو الأمر غريبا، أن يهاجم البعض إيران؛ لأنها لم تكسر قاعدة الردع بالنقاط؛ فترسل صواريخ مليئة بالمتفجرات أو ربما الأسلحة الكيمائية، وتلقيها على منشآت إسرائيل النووية، وترسل آلافا من قواتها للحرب في لبنان؛ لكي تدخل في حرب شاملة على طريقة “غزوات” صدام حسين؛ فيهاجمها العالم الغربي كله ومعه إسرائيل وتدمر البلد.
لا يجب الاستخفاف أو إدانة أي دولة، اختارت وسيلة معينة للرد على هجوم تعرضت له، فهو أمر يخصها ولا يخص الآخرين، وهو بالمناسبة هجوم، لم يكن سهلا، بل كان بالمعنى النسبي كبير، وكانت رسالته أساسا، أننا نمتلك صواريخ بالستية قادرة على اختراق الدفاعات الإسرائيلية، “فاحذروا”، لأنكم لو ضربتم منشآت نووية أو نفطية، فإننا سنرد بصواريخ “محشوة” على آخرها متفجرات.
يقينا حسابات إيران في نمط وشكل المواجهة مع إسرائيل، تخصها، ومن حقها أن ترى فيها أنها تحقق مصالحها وأمنها القومي، خاصة أن بعض من ينتقدونها، ويطالبونها بالتهور والهجوم على إسرائيل، هم من المتفرجين الذين يحاربون إسرائيل بالشعارات.
صحيح من حق كثيرين في العالم العربي، أن ينتقدوا تدخل إيران في سوريا ودعم النظام السوري، وهو ما أدى إلي فقدانها حاضنة شعبية واسعة صدمها هذا التدخل الفج، كما من حق كثيرين، أن يرفضوا النموذج الإيراني وتدخلاتها في أكثر من بلد عربي، وهي انتقادات مشروعة، بل ومطلوبة، لكن رفض نموذج الردع بالنقاط، وتفادي الحرب الشاملة الذي بات من سمات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، هو أمر لم يعد مقبولا، لأنه يمثل تدخلا في خيار إيراني، يعتبر من حقها تماما على عكس كثير من خياراتها أو تدخلاتها الأخرى.