لم يكن يتوقع أكثرنا تشاؤما، أن يكون في صبيحة اليوم التالي لافتتاح محطة قطار بشتيل الجديدة، والتي قيل إنه قد تم صرف رقم مالي كبير عليها وتجهيزها، أن تكون هناك حادثة جديدة من حوادث القطارات المصرية، والتي ربما باتت أمرا تقليديا منذ سنوات، حيث صار أمر تكرار حوادث تصادم أو انقلاب القطارات من الأمور التي يتكرر حدوثها في مصر، وكالعادة يتم الترويج لسرعة مجابهة الحادث ونقل المصابين، وانتقال كبار المسئولين إلى مكان الحادثة، وصرف تعويضات، وما إلى ذلك من شؤون وأمور تقليدية، ربما كان يغني عنها، أن تكون هناك رعاية ما قبل الحادثة.

وتعود بي ذاكرتي إلى الوراء، تحديدا، حيث واقعة حريق قطار الصعيد التي راح ضحيتها ما يقارب أربعمائة شخص، وتمت إحالة بعض الموظفين الصغار من سائق القطار ومشرفي العربات وغيرهم إلى المحاكمة الجنائية، وكان لي شرف التواجد ضمن فريق الدفاع عن المتهمين، ومما هو جدير بالإشارة في هذا الشأن، أنه قد جاء في حيثيات الحكم رقم 2816 سنة 2002، ورقم 598 سنة 2002 م كلي، قول المحكمة، إن مصر أغلى من كل هؤلاء جميعاً والعدالة التي ترتفع هاماتها فوق الجميع – والمحكمة في هذا المجال، تهيب بقيادات الدولة الرشيدة التي أنجبتها مصر، وندين لها جميعا بالولاء تهيب المحكمة بهذه القيادات النقية الطاهرة، وعلى رأسها القيادة السياسية، وهى قادرة على ذلك بإذن الله على وضع الأمور في نصابها وتصحيح المسار؛ لاختيار الأصلح لهذه المواقع، لا سيما المتصلة بجمهور المواطنين؛ فيضاف إلى الشفافية والطهارة الكفاءة والقدرة على إدارة الأزمات ومواجهة المشاكل لا مخالفة القانون، ولأن إلزام المواطنين بدفع غرامات تذهب إلى جيوب هؤلاء الكبار، ومن ساندهم بحجة كاذبة، وهي تنمية موارد الهيئة وهي في الحقيقة تنمية مواردهم هم، وزيادة مخصصاتهم وسياراتهم الفارهة، إذ حسب المواطن الفقير البسيط قهراً ومعاناة، ولا يبقى إلا أن تسوقه هذه القيادات الفاشلة واللوائح والنظم المتخلفة، إلى أن يلقى مصيره حرقا؛ فالكل في هذا السياق مسئول والقيادة التي اختارت هؤلاء المسئولين الفاشلين، والحكومة التي لم توفر لهذا المرفق الاعتمادات والاستثمارات اللازمة لتطوره، والنهوض به على توفير الحد الأدنى اللازم– لتيسيره حتى توفر للمواطن الفقير الحد الأدنى من الأمان – وكبار المسئولين الذين يسارعون إلى تبرير الأحداث الجسام في وسائل الإعلام، قبل أن تتضح الحقائق، بما قد يعكس تأثيرها على مجريات الأحداث وتطور التحقيقات، كما أنها توصي وسائل الإعلام عليها، أن تتحرى الدقة وتنقي الأقلام كلها، عليها تعلم أن القلم مسئولية وشرف، وأن المتهم برئ حتى تثبت إدانته وتكرر المحكمة، أن هامة العدالة في مصر عالية شامخة، وستظل كذلك تعلو فوق كل الرؤوس، لا تخشى في الحق لومة لائم، ولا يعنيها إلا مرضاة الله وإعلاء كلمة الحق والقانون، وأن هذه المنصة العالية تعطى العدل، لكل من يلجأ إليها طالبا إياه لا فرق عندها بين الفقير والغنى والكبير والصغير، وعلى الجهات المعنية في معرض التحقيق والرقابة، أن تجري شؤونها في البحث عن المتهم الحقيقي والمتسبب الحقيقي للحادث؛ لينال عقابه من قاضيه الطبيعي بعد إجرائها، إن شاءت بتحقيقاتها وتحرياتها.

وهو الأمر الذي ما زال يتكرر مع كل حادثة من حوادث القطارات، إذ سوف يتم معاقبة صغار الموظفين، دونما البحث عن الأسباب الحقيقية وراء تكرار هذه الحوادث بصورة لا يمكن تخيلها من حيث عدد المرات، أو من حيث ما تخلفه من مصائب وأزمات، ودونما التحري بدقة عن الأسباب الحقيقية وراء تلك الحوادث والسعي نحو تلافيها، أيا ما كانت أسباب حدوثها، وذلك أيضا ما رصدته المحكمة حينها فقالت: وحيث أن المحكمة في ظل كل ما جرى وعلى ضوء، ما انتهت إليه من تحقيقاتها وأوردته في أسبابها، ترى لزاما عليها أن تقر أن العدالة وساحات القضاء، كلت وملت من هذا الأسلوب الهزيل والمسرحيات الهزلية، والتي يحملها المسئولون من وقت لآخر إلى ساحات العدالة؛ لتبرير العوار الذي أصاب المجتمع ومرافقه المتصلة بالجمهور، لتبرير سلبيات الأداء، وفشل القيادات التي تضعها الدولة على رأس هذه المرافق التي تخدم جمهور المواطنين، وهى ملك لهم وثروة البلاد القومية– الدومين العام للدولة – آن لهذا المسلسل المهين أن ينتهي– فالواقعة الماثلة تنطق بالسلبية وعدم الاحترام لعقل الرأي العام عن أسباب الحادث وتداعياته وأبسطها الإهمال، والتسيب الذى استشرى في كل المرافق التي تخدم الجمهور، في حين يكتفي المسئولون كبارهم وصغارهم بالتصريحات الصحفية والتلفزيونية بالصوت والصورة، وأن أحداً لن يفلت من العقاب، وأن الحكومة ستفعل كذا وكذا لإصلاح الخلل، وستدبر مليارات الجنيهات لخدمة المواطنين والمرافق التي يستخدمها؛ فتمخض الجبل وولد فاراً ويجيئون إلى ساحات العدالة بصغار صغار المسئولين والعمال؛ ليكونوا الشماعة التي تعلق عليها السلطات صاحبة القرار في الدولة أخطائها وسلبياتها، فقد ملت العدالة ودور القضاء من هذا الأسلوب، يأتون بالصغار والكادحين، ومن لا دراية أو قدرات لهم ليقفوا خلف القضبان سجناء الظلم والقهر، والمسئول الحقيقي طليق، وهو ينعم بالراتب الذى يصل إلى عشرات الآلاف من الجنيهات شهريا أو أكثر، ويجلس على المقاعد الوثيرة في المكاتب المكيفة، لا يسأله أحد ولا يعكر صفو مزاجه سلطة تحقيق أو جهاز رقابي، لأن هؤلاء الناس أصحاب العزة والجاه والمناصب الفخمة الثرية – هؤلاء متساندون، ما أن يقع أحدهم حتى يسارع أقرانه إلى دعمه، وإقالته من عثرته أو يهيئ له مكانا وموقعا آخر أكثر رفاهية وثراء– أما أمثال المتهمين من الفقراء المطحونين؛ فتدور عليهم الدوائر، ويصيرون كبش فداء لهذه الفئات الطاغية والذين سيعلمون بإذن الله– “أي منقلب يتقلبون”.

وقد رصدت المحكمة في ذلك الحكم معظم أسباب تردي سبل أداء الخدمة في مرفق السكة الحديد، كما أنها أشارت إلى بعض سبل المعالجة، ولكن من حينها وما زال أمر تلك الحوادث يتكرر بشكل مخيف، ذلك على الرغم من كون الحكومة قد قالت في أكثر من مناسبة عن صرف مليارات الجنيهات على مرفق السكة الحديد، كما أنها قامت أكثر من مرة برفع أسعار التذاكر في مقابل تحسين الخدمة، والتي أعتقد أن أهم بنود تحسين الخدمة هي الحفاظ على حياة الركاب وسلامتهم، والتحقق من ضمان وصولهم سالمين.

فهل نجد صدى لمثل تلك المخرجات، فيما هو قادم من محاولة الوصول إلى أسباب تكرار هذه الحوادث وإصلاحها، أم أن آفة العيوب الإدارية ستبقى في مصر إلى أبد الآبدين. أم أن التساؤل الطبيعي، يجب أن يكون موجها إلى المسئولية السياسية للسلطة التنفيذية قبل المسئولية القانونية، وكذلك لا بد وأن نتساءل عن رقابة السلطة التشريعية.